كما هذا وصف للرومي الهارب، هو أيضًا حكاية لحال الناظر إلى هربه من بعد، بعين الواقع أو عين الخيال، وهو الشاعر نفسه.
ومن جيد نعت جرير للسفن في معرض التشبيه قوله يصف الإبل:
تخالهن نعامًا هاجه فزع ... أو زنبري زهته الريح مشحونا
يلقى صراريه والموج ذو حدبٍ ... يلقون بزتهم إلا التبابينا
جمع تبان بضم التاء وتشديد الباء وهو شيء من خرقة قصير يستتر به أهل البحر. وأصل جميع هذه الأوصاف من نعوت الجاهليين القدماء كقول طرفة:
عدولية أو من سفين ابن يامن ... يجور بها الملاح طورًا ويهتدى
يشق حباب الماء حيزومها به ... كما قسم الترب المفايل باليد
وقول المثقب:
يشق الماء جؤجؤها ويعلو ... غوارب كل ذي حدبٍ بطين
وأوصاف المحدثين للسفن كثيرة.
والغالب على طريقة المحدثين في الوصف زخرفة الألفاظ والمعاني وقد عرضنا لهذا المعنى كثيرًا من قبل. وقد رام قدامة أن يجمع بين صفة طريقتي القدماء والمحدثين في الفصل القصير الذي عقده للوصف فقال في أوائل تصديره له:«ولما كان أكثر وصف الشعراء إنما يقع على الأشياء المركبة من ضروب المعاني، كان أحسنهم من أتى في شعره بأكثر المعاني التي الموصوف مركب منها ثم بأظهرها فيه وأولاها حتى يحكيه بشعره ويمثله للحس بنعته» ثم استشهد بأبيات مقاربة لهذا الذي ذكره وكأنها تمهد من بعيد لمذاهب المحدثين أولها بيت الشماخ في صفة أرض تسير فيها النبالة:
تقعقع في الآباط منها وفاضها ... خلت غير آثار الأراجيل ترتمي