(عنى شهر الحج)، فانظر إلى رقة هذا الكلام، وتأمل كيف أورده الشاعر مورد المناجاة والهمس لا الخطابة والصياح. وأزيدك إيضاحًا: وازن بين قوله: "ما نلتقي إلخ"، وقوله في الجيمية:
نلبث حولا كاملا كله ... لا نلتقي إلا على منهج
في الحج إن حجت وماذا منى ... وأهله إن هي لم تحجج
فالمعنى كما ترى واحد. إلا أن نفس السريع في الجيمية خطابي، بينما نفس الكامل في الرائية نفس مناجاة وتلطف.
وأنشد معي هذه الأبيات للنواسي من الكامل المضمر:
كان الشباب مطية الجهل ... ومحسن الضحكات والهزل
كان الفصيح إذا نطقت به ... وخرجت أخطر صيت النعل
كان المشفع في مآربه ... عند الفتاة ومدرك النيل
والباعثي والناس قد رقدوا ... حتى أكون خليفة البعل
فالآن صرت إلى مقاربة ... وحططت عن ظهر الصبا رحلي
والكأس أهواها وإن رزأت ... بلغ المعاش وقللت فضلي
صفراء مجدها مرازبها ... جلت عن النظراء والمثل
ذخرت لآدم قبل خلقته ... فتقدمته بخطوة القبل
فأتاك شيء لا تلامسه ... إلا بحسن غريزة العقل
حتى إذا سكنت جوامحها ... كتبت بمثل أكارع النمل (١)
(١) الشعر والشعراء ٧٩٧. قال ابن قتيبة ما فحواه: أنه يرجح "كان الشباب مظنة الجهل" بالظاء المعجمة والنون وكسر الظاء، وكأن أبا نواس أخذه من قول النابغة "فإن مظنة الجهل شباب" وهذا وجه وأرجح عندي ما تواترت به الرواية "كان الشباب مطية الجهل" بالطاء المهملة، ويدلك على صواب هذا الرأي قوله "وحططت عن ظهر الصبا رحلي" وقوله: فالآن صرت إلى مقاربة عني بها مقاربة الخطا في المشي من الضعف والشيخوخة. مرازبها: الأعاجم الكرام الذين يسبأونها - قوله جلت عن النظراء والمثل: نظر فيه إلى كلام المعتزلة عن الله. قوله: كتبت بمثل أكارع النمل: عنى أن أثر الخمر في الجسم مثل دبيب النمل على الرمل والمعنى قديم. أو كأن نملا يدب في العظام.