كل هذه الأوجه أمامك تختار منها ما تشاء، ولعلك تفضل الوجه الأول -التزام القافية في ثلاثة أبيات أو أربعة أو خمسة- لسهولته. ولكنك بعد أن تكثر من النظم فيه، تجد نفسك تمله، وتميل شيئًا فشيئًا إلى الزخرفة اللفظية، فتفارقه إلى الوجه الثاني، فالوجه الثالث، وهكذا إلى أن ينتهي بك التجريب والأخذ والترك، إلى النوع الذي رسمناه، أو إلى شيء زخرفي قريب منه. وأظنك توافقني أن كثرة تنويعه، وتعدد قوافيه، أشد تشويشًا على الناظم من القافية الموحدة، وأحرى أن يصرفه عن متابعة أفكاره، وأن يشغله باصطياد أحرف الروي المناسبة.
وقد تقول لي: لماذا افترضت أني سأمل القافية التي تتغير بعد كل بيتين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، وزعمت أني سأستبدلها بقواف مزخرفة بالطريقة التي رسمتها أو بشيء من ذلك القبيل؟ لماذا لم تفرض أني سأحبها وألتذّها وأستمر فيها؟ وجوابي على ذلك أن تغير القافية بعد بيتين شيء ممل لا يقبله الذوق العربي، وحتى بعض الافرنج الذين استعملوه قد ملوه وكرهوه. وتغير القافية بعد ثلاثة أبيات أو أربعة قريب من ذلك في الإملال، وإن صلح لشيء فإنما يصلح للأوزان القصار، كالهزج والرمل المجزوء. أما الطوال فلا يصلح لها، ذلك بأن البحور الطوال فيها مجال للقول، وطبيعة اللغة العربية بمشتقاتها المتشابهة وضمائرها التي تعين على السجع والقافية، لا ترتضي نظامًا سهلًا كهذا النظام الذي لا يتيح لها أن تبرز جمالها اللفظي، وتتبرج في حلي من ذخيرتها الغنية. وفضلًا على ذلك فإن القافية التي تتغير بعد كل ثلاثة أبيات أو أربعة، تقطع تسلسل الأفكار وتضطر الشاعر إلى أن يحول مجرى خواطره بين حين وآخر تبعًا للقافية المتغيرة، اللهم إلا أن يكون نظمه في غرض