صاحب الأغاني في أخبار أبي العتاهية أنه قربه الفضل بن الربيع وزير الأمين قال:«فبينما هو مقبل علي يستنشدني ويسألني فأحدثه إذ أنشدته:
ولى الشباب فما له من حيلة ... وكسا ذؤابتي المشيب خمارا
أين البرامكة الذين عهدتهم ... بالأمس أعظم أهلها أخطارا
فلما سمع ذكر البرامكة تغير لونه ورأيت الكراهية في وجهه فما رأيت منه خيرًا بعد ذلك» - فتأمل.
وفن المقامات بأسره يوشك أن يدخل في باب المعاريض لما يتضمنه من هجاء بعض مظاهر المجتمع وخفي التعريض ببعض الشخصيات. وقد كان الجاحظ يصرح بذكر أسماء الناس ويوسعهم هجاء برسائله وبلاغة نثره وكتاب البخلاء شاهد في هذا الباب لو كان شعرًا لكان ههنا موقع الاستشهاد بقطع منه، وقد ذهب الدكتور طه حسين إلى أن فن الجاحظ قد جعل يحل محل الشعر ويتعاطى أغراضه. وفي هذا مجال أخذ ورد فقد كانت العرب تتنازل بالخطب والأسجاع ولا تعد ذلك شعرًا. وترويه على أنه أسجاع لا شعر. وقد أورد أبو الفرج بعض ذلك في أخبار الرماح بن ميادة. ففن الجاحظ أجدر أن ينتمي إلى أصله النثري. والمقامات فرع من فن الجاحظ ومعاصريه والنقد في مقامات البديع غير مصرح فيه بأسماء كما في بخلاء الجاحظ ولكنه منتزع من مشاهدات لا أستبعد أن شخصياتها كانت معروفة على زمانه. وقد كان البديع يخلط بنثره شعرًا. وقد بلغ الحريري بهذا الأسلوب غايته وكان شاعرًا ناثرًا. وكثير مما ضمنه معاني الكدية والاحتيال ليس ببعيد عما نقول به من قصد التعريض ببعض أحوال مجتمعه وذوي المكانة والوجاهة فيه. شخصية الإمام المتعاطي الخمر في المقامة الخمرية تتكرر نظائرها في الحريري. خذ مثلًا (من المقامة الدمشقية وهي العاشرة): «فإذا الشيخ في حلةٍ ممصرة بين دنانٍ معصرة، وحوله سقاة تبهر وشموعٍ تزهر وآس وعبهر ومزمار ومزهر وهو تارة