مما كأنه رمز لمعنى التحام البداوة والحضارة في العرب التحامًا يجعل حضريهم لا يتخلص من معدن البداوة الذي هو فيه أبدًا وبدويهم أبدًا تخالط روحه دعوة الحضارة ونوازعها، خبر التوراة أن الملك بشر هاجر أم إسماعيل بأنها ستلد إنسانًا وحشًا - (سفر التكوين) ١٦ - رقم ١١ - ١٢ - «وقال لها ملاك الرب ها أنت حبلى فتلدين ابنًا وتدعين اسمه إسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتك وأنه يكون إنسانًا وحشًا يده على كل واحد ويد كل واحد عليه وأمام جميع إخوته يسكن»، وفي سفر التكوين ٢١ رقم ١٧ «ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها ملك يا هاجر، لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو. قومي احملي هذا الغلام وشدي يدك به لأني سأجعله أمة عظيمة». أشار البوصيري رحمه الله إلى مقالة التوراة هذه وأصاب إذ عدها من باب البشارة بسيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال:
تخبركم التوراة أن قد بشرت ... قدمًا بأحمد أم إسماعيلا
ودعته وحش الناس كل ندية ... وعلى الجميع له الأيادي الطولا
وأول هذه القصيدة:
جاء المسيح من الإله رسولا ... فأبى أقل العالمين عقولا
قوم رأوا بشرًا كريمًا فادعوا ... من جهلهم لله فيه حلولا
وشاهد الرمز قول التوراة «إنسانًا وحشًا» أو كما قال البوصيري «وحش الناس» ولعل هذه ترجمة أقدم وهي أفصح من قوله «إنسانًا وحشًا».
تبدى الشعر الفني طبيعة إنسية وحشية فيه ووحشية إنسية فيه. وكانت العرب تنسب الشعر إلى الجن ويلذها فيه الغريب وأكثر ما كان يعمد الشعراء إلى الغريب إذا