للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأحسب أن الشعراء الأربعة الذين قدموا في الجاهلية كأن قد جعلوا أمثلة لهذه العناصر. وهن يجتمعن في الشاعر المفلق، لا يستغنى عن واحدة منهن، وكل منهن صفة وثيقة الصلة بالبداوة. الفصاحة معدنها البداوة. وكل من كان منها أقرب كان من الفصاحة أقرب. وقد قرأت منذ دهر مضى كلامًا من هذا المعنى للسباعي بيومي رحمه الله يقول فيها إن طبقات القاهرة الشعبية والنساء خاصة لهن من الفصاحة ما لا يوجد في الطبقات التي هي أعلى أو ما هو بهذا المجرى، وهذا أمر مشاهد في كثير من بلاد العربية أن أدنى طبقاتها إلى البداوة -حتى في اللغة الدارجة- أقواها في مجال الفصاحة وأدناها إلى معدن فصاحة العربية الفصحى. هذا، والشجاعة مع البداوة وإليها أقرب منها إلى الحضارة. وكذلك السخاء لبساطة العيش واشتراك الناس فيه وحاجتهم اليومية بعضهم إلى بعض. وقد تعلم أصلحك الله أمر إيقاد العرب على الإيفاع نيران القرى. وقال طرفة:

ولست بحلال التلاع مخافة ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد

وكان فطنة الأعراب مثل سائر. وقد مر بك قول حبيب:

لا رقة الحضر اللطيف غذتهم ... وتباعدوا عن فطنة الأعراب

فالفصاحة كأن النابغة رمز لها. وقالوا أشعر الناس النابغة إذا رهب، والرهبة مما تفحم وما تنطق، فمن أنطقت جاء بالبيان الساحر ليخرج به من مأزقه والشجاعة رمزها الفرس والفارس، وقالوا أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وقد كان ملكًا وابن ملك، حال الحضارة ولينها، أشبه به وأقرب إلى مكانه، ولكنه كان مع ذلك بدويًّا مقاتلًا. وفي شعره كما كان يصف الخيل فيجيد، كان كمن ينشده وهو على صهوة مشرفة على الآفاق. وقالوا: أشعرهم زهير إذا رغب، ومن رغب تأتى بلباقة وذكاء وقديمًا قالوا من أحب طب والرغبة فرع المحبة والطلب طرف منها لا ينفصم.

<<  <  ج: ص:  >  >>