وأحسب أن قول القائلين بفطرية العرب من مستشرقي أبنائهم العرب والمستعربين اليوم قد أخذوا بما قال به ابن خلدون. ولا ريب أن في أقوال ابن خلدون عمقًا وبراعة تأمل. ولكنها ينبغي ألا تعزل عن ملابساتها في الزمان والمكان والظروف السياسية والاجتماعية والدينية التي كانت تحيط بابن خلدون نفسه، فقد كان رجلًا داهية سياسيًّا مناضلًا ذا طموح والذي قال به توينبي في كتابه الذي درس فيه التأريخ أن ابن خلدون اعتزل الناس ثم خرج على الناس بكتابه كما يفعل الأنبياء، فيه نظر إذ أن ابن خلدون لم ينفصم حقًّا عن مخالطة الناس ونضالهم. وقد أنكر على العلماء المعرفة بأمور السياسة والمقدرة على النهوض بأعبائها. وكان هو من العلماء وخاض غمار السياسة خوضًا ورأى العلماء على عصره يفعلون ذلك. فإن يك إنما أراد إبعادهم ليخلو الجو لنفسه فعسى ذلك. وقد ذكر خبر العباسة فأنكر أن يكون غرام بينها وبين جعفر هو الذي جر نكبة البرامكة أو كان لها سببًا مباشرًا -كما يقول المؤرخون الآن- بحجة أن الرشيد وزمانه كل ذلك كان قريبًا من سذاجة السلف الصالح. وقد كان الطبري من رجالات العلم ببغداد في زمان أقرب إلى السلف الصالح من زمان ابن خلدون وأعرف بحال بني العباس، ولم يستبعد ما استبعده ابن خلدون ولا نسب إلى زمان الرشيد أيتما سذاجة. وابن خلدون نفسه قد زعم أن الدولة الإسلامية قد داخلها الترف وقويت له في كلتا دولتيها الأولى والثانية، وذلك لا يستقيم ما ادعاه من سذاجة لزمان الرشيد.
اجتهاد الصحابة في تدبير الفتوح والخراج والقضاء وكتابة المصاحف وضبطها