وأبدى لي التأمل لها أن أكثرها ينتهي عظم معنى البيت فيه في صدره ويكون العجز تتمة إما بطباق وإما بمقابلة وإما بزيادة من توضيح ونحو ذلك. فهذا لين إذا وازنت بينه وبين متانة أسر القدماء التي تقتضي أن يكون البيت فيه كلا مصمتًا وألا تقع فيه زيادة لفظ إلا ومعها زيادة معنى نحو قول زهير.
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم
وفي ميمية بشار بعد أبيات روائع نحو:
مقيما على اللذات حتى بدت له ... وجوه المنايا حاسرات العمائم
وقد ترد الأيام غرا وربما ... وردن كلوحًا باديات الشكائم
ونحو:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازم
وحارب إذا لم تعط إلا ظلامة ... شبا الحرب خير من قبول المظالم
بل كلها رائعة. ولكن فيها هذا التقابل والتكافؤ المنبئ عن أناة تصنيع وحضارية ذوق ومذهب وأسلوب يمت بصلة واشجة إلى ما افتن فيه الجاحظ من ازدواج في نثره ومقابلات - «بدت له وجوه المنايا، حاسرات العمائم» ليست «كحب الفنا لم يحطم» لأن «لم يحطم» زيادة لا شك فيها على مجرد حب الفنا ولكن حاسرات العمائم أطناب إذ الوجوه قد بدت. ومثل ذلك «كلوحًا»«باديات الشكائم» - «فلست بناج» - «من مضيم وضائم» - وأيضًا قوله:«وتارة يكون ظلامًا- للعدو المزاحم» فليس في المزاحم زيادة في المعنى ذات بال، وهلم جرا.
ابن هرمة وبشار كلاهما على تبربزهما في عصرها لم يتجاوزاه في تقدير الأجيال بعدهما بكثير. وما أرى إلا أن القوم قد أنصفوا إذ جعلوا إبراهيم بن هرمة سكيت حلبة الفصحاء، فبديعه شيء منوط بفصاحته عن تكلف، أشبه شيء إن كان جله من