أولًا: إن أكثر شعر الفلسفة وما يذهب به مذهب الكلام مما يكون في الغالب خاليًّا من جمال الشعر. وقد أخذوا على صاحب الزينبية هذا المذهب. ولم يبق بأيدينا من طويلة أبي العتاهية ذات الأمثال شيء كثير إنما بقيت أبيات، وقد ذهبت أكثر الطرافة التي كان يجدها معاصروه غف زهدياته مع أنه ذهب بأكثرها مذهبًا وعظيًّا وجدانيًّا لا جدليًّا فكان ذلك أقرب بها إلى الناس، مثل كلمته:
خانك الطرف الطموح ... أيها القلب الجموح
لدواعي الخير والشر ... دنو ونزوح
لتموتن وإن عمر ... ت ما عمر نوح
وقد نظم اللاحقي كليلة ودمنة فلم يحفظ منها شيء. وقد أورد الجاحظ شعرًا كثيرًا لأصحابه المعتزلة يتحدثون فيه عن مسائل فكرية وكونية في كتابيه الحيوان والبيان، وقل من أصحاب الاختيارات ونقاد الأدب من يهتم بذلك في باب الجودة، مع أن دالية صفوان الأنصاري التي يحتج فيها للأرض على النار لا تخلو من بعض الإحسان.
نبه أبو العلاء إلى أن الشعر متى حمل على وجه الحق أدركه الضعف وإنما يقوى في الباطل، ذكر هذا يعتذر به في مقدمة اللزوميات عما عسى أن يفتقده القارئ فيها من جمال الشعر الجيد. وجانب من هذا الذي اعتذر به لا يخلو من صواب. إلا أنه كله لا يمكن أن يقبل هكذا بلا تأمل ونظر. كثير من الشعر الذي يراد به الحق لا الباطل يجود وتطرب له الأسماع والقلوب.
مثلًا شعر الحكمة الذي تخالطه حرارة روح الفؤاد، مثل قول زهير:
ومن يوف لا يذمم ومن يهد قلبه ... إلى مطمئن البر لا يتجمجم
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... بهدم ومن لا يظلم الناس يظلم