فبينا أنا يومًا في بعض أسواقها إذ طلع رجل بركوةٍ اعتضدها وعصا قد اعتمدها ودنيةٍ قد تقلسها، وفوطة قد تطلسها. فرفع عقيرته وقال: اللهم يا مبدئ الأشياء ومعيدها، ومحيي العظام ومبيدها، وخالق المصباح ومديره، وفالق الإصباح ومنيره، وموصل الآلاء سابغة إلينا، وممسك السماء أن تقع علينا. وبارئ النسم أزواجًا، وجاعل الشمس سراجًا، والسماء سقفًا والأرض فراشًا، وجاعل الليل سكنًا والنهار معاشًا. ومنشئ السحاب ثقالًا، ومرسل الصواعق نكالًا. وعالم ما فوق النجوم، وما تحت التخوم. أسألك الصلاة على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين، وأن تعينني على الغربة أثنى حبلها، وعلى العسرة أعدو ظلها، وأن تسهل على يدي من فطرته وأطلعته الطهرة، وسعد بالدين المتين، ولم يعم عن الحق المبين، راحلة تطوي هذا الطريق، وزادًا يسعني والرفيق. قال عيسى بن هشام: فناجيت نفسي بأن هذا الرجل أفصح من إسكندرينا أبي الفتح، والتفت لفتةً فإذا هو والله أبو الفتح. فقلت يا أبا الفتح بلغ هذه الأرض كيدك، وانتهى إلى هذا الشعب صيدك، فأنشأ يقول:
أنا جوالة البلا ... د وجوابة الأفق
أنا خذروفة الزما ... ن وعمارة الطرق
لا تلمني لك الرشا ... د على كديتي وذق»
أ. هـ.
فهذه كما ترى مقامة مكد غير أن البديع إنما كان معلمًا يحكي بصناعة بيانه مقامة المكدين.
على هذا تكون المقامة شيئًا بين القصص والدرامة ثم لا هو بقصص ولا بدرامة. إما كونها ذات طبيعة قصصية لأن السياق خبرٌ وحكاية عن أشخاص وأحداث. وإما كونها ذات طبيعة درامية لأنها تحكي حال أشخاص من طريق مقال