للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهل مجرد مصادفة مجيء إبليس وبيت جرير في كلام أبي العلاء من دون سابق تأثر بالبديع؟

ثم قد ترى الأبيات الخبيثة التي طرب لها إبليس - (وما أحسب إلا أن البديع أراد التعريض ببعض ما يقع عند أهل الرهبنة، وقد جاء كمثل ما عرض به في اعترافات جان جاك روسو فتأمل) - هل أيضًا من قبيل المصادفة أن أبا العلاء جعل إبليس جحيمه يقول وهو يضطرب في الأغلال والسلاسل: «إني لا أسألك في شيء من ذلك، ولكن أسألك عن خبر تخبرينه: إن الخمر حرمت عليكم في الدنيا وأحلت لكم في الآخرة، فهلا يفعل أهل الجنة بالولدان المخلدين فعل أهل القريات؟ ».

فهذا كما ترى عين ما ذهب إليه بديع الزمان.

وأحسب أنه قد تقدم منا من قبل الإلماع إلى أخذ أبي العلاء من مواضع أخرى كثيرة سبق إليها الأدباء والعلماء والقصاص وليس ههنا موضع استقصاء ذلك. وليس بمخرج رسالة الغفران عن صنف المقامات طولها وان صاحبها سماها رسالة لا مقامة وأنه جعل مسرح حوادثها الدار الآخرة محاكيًّا في ذلك كتاب التوهم للحارث بن أسد المحاسبي وما أشبهه مما وصلنا وما لم يصلنا والحارث بن أسد رحمه الله من زمان ابن حنبل رضي الله عنه وذلك ومان سابق لعصر المعري بقرن وزيادة.

وإليك نتفة يسيرة من كتاب التوهم لترى مصداق ما نزعمه من أخذ المعري منه ومن مثله: «فتوهم النجائب حين أخذت في السير بأخفافٍ من الياقوت سيرًا واحدًا بخط واحد لا يتقدم بعضها بعضًا، تهتز أجسام أولياء الله عليها من نعيمها وأكتافهم متحاذية في سيرهم وأخفاف رواحلهم وركبها متحاذية في خببها، فانطلقوا كذلك تثير رواحلهم المسك بأخفافها، وتهتز رياض الزعفران بأرجلها، فلما دنوا

<<  <  ج: ص:  >  >>