إذا الحداة بسلع عرضوا فلها ... على الوجى ودوام السير تبغيل
تحن شوقًا وأني لا تحن إلى ... حمى الرسول النجيبات المراسيل
فهذه المقدمة التي مرت ليست من قرى صناعة المقامات والبديع وأوصاف الشموع وضروب العبث بالمحسنات واللعب اللفظي والمعنوي، ههنا أنفاس فحولة من الشعر شبيهة بأنفاس فحول صدر الإسلام والمحدثين المشهود لهم بالتقدم، وكالقدماء لا يجد الشاعر عسرًا في الاستهلال بالديار والنسيب، إذ الديار التي تيمت قلبه ذكراها هي الكعبة الشريفة والمشاعر والمعرف ومنى ورباع مكة المقدسات والقبر الزكي والروضة والمسجد والحرم وأحد والبقيع وقبا ومشاهد دار الهجرة العظام.
تأمل هذا التعبير النبيل الجزل:
هل ربة الستر بعد النأي دانية ... أم حبلها بعد طول القطع موصول
وهل تجد بنعمان الأراك لنا ... من المواهب أسمال رعابيل
والشاهد قوله «من المواهب أسمال رعابيل» -فالأسمال الرعابيل من صفة الثياب، والأسمال أيضًا بقايا الماء في الركايا، وكل هذه الظلال من المعاني مرادة ههنا
قال المعري:
جلبت من الشامين أطيب جرعة ... وأنزرها والقوم بالقفر ضلال
يلوذ بأقطار الزجاجة بعدما ... هريقت لما أهديت في الكثر أمثال
يصف قبلتها أنها أطيب جرعة على قلتها حتى إنها لا تزيد على ما تبقى في أقطار الزجاجة بعد أن يراق ما فيها
فإن زعموا أن الهجير استشفهم ... إليها فمنها في المزايد أسمال
أي بقايا، وما أرى إلا أن الصرصري رحمه الله يشير إلى ما ذكره أبو العلاء ههنا من معنى المواهب، وكان الأولى الضرر خاصة بأبي العلاء فرط ولع وإن اختلفت مذاهبهم