للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في نفس الوقت.

هل كان الزمخشري معتزلًا حقًا؟ أم هذا الاعتزال حلة جعلها مظهرًا لقوة شخصيته وحرية فكره واعتداده بخلافته سيبويه وجهابذة لغة العرب وفحول البيان المتقدمين؟

إن زال عن رمي أغراض الهدى فرق ... تلهو مضللة قالت لهم زولوا

هل عنى أهل السنة؟ استبعد ذلك. وأشبه أن يكون عنى أعداءه الذين تسببوا في أخذه بسبيل الهجرة. وقد ضمن ههنا قافيته من قول كعب:

في فتية من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا

إلا أنه قد انحرف بالتضمين شيئًا عن وجهه، إذ قائلو القولة «زولوا» في بيته هم الفرقة المضللة وعند كعب هم أهل الهدى.

فقوس قومي بالتقوى موترة ... وسهمهم باتباع الحق منصول

وفي هذين البيتين اللذين جعلهما خاتمة القصيدة، على جودة معناهما وملاءمته لأن يكون من باب حسن المقطع، تعب تكلف في الصياغة. يشهد بذلك أنه احتاج إلى وصف الفرق وهي في آخر صدر البيت: «إن زال عن رمي أغراض الهدى فرق» بجملتين أولاهما وصف ثالث هو الحال -مضللة- والجملة الثانية «قالت لهم زولوا» غير واضحة ملاءمة الصياغة لما قبلها. وكأن أصل المعنى: «إن زال عن رمي أغراض الهد فرق قالت لهم زولوا فإنهم لم يزولوا عن ذلك لأن أقواسهم موترة بالتقوى ولها نصول من اتباع الحق» ثم جاءت الجملة «تلهو مضللة» معترضة. وهو مذهب خطابي مستقيم في جدل الكلام، ولكنه ذو تعسف وتكلف في طريقة الشعر.

لا ريب أن الزمخشري بعيد كل البعد عن التقية. إلا أن يكون قد اتخذ من مظهر الاعتزال سترًا لبعض التشيع .. بعض يسير، ربما، -لا كما صنع ابن أبي الحديد من بعد إذ يزعم أنه من أهل العدل والتوحيد وهو محتب في بحبوحة من الرفض.

أبو العلاء ذو التقية والتهيب أشعر شاعرًا بمدى بعيد من الزمخشري، مع قوة الشبه بينهما في علم العربية واللغة وفهم أسرار البيان. وزمان ما بين الرجلين غير جد بعيد. ولعل القارئ الكريم ذاكر ههنا في هذا الموضع ما كنا قلناه من أن قضية الصدق في الشعر -أو قل الصدق الشعري- من أعسر القضيات وأعوصها لمن يروم لها شرحًا وتوضيحًا. لا يكفي في وصف الصدق الشعري أن يقال إنه حماسة وطرح تهيب وغرف من تجارب النفس.

<<  <  ج: ص:  >  >>