كتابه هي السنة، فهذا يجعلها بلا ريب يحتج بها لا عليها. أحسب أن لو كان أبو العتاهية حلى زهدياته بشيء من مدح الرسول صلى الله عليه وسلم مع إدمانه قرع باب الديانة من طريق التذكير بالموت لكانت دخلتها من ذلك بركة ونور، ولسلم إذن من تهمة الزندقة التي اتهمه بها بعضهم، ذلك إذ رجحوا أنه بذكره الموت دون البعث كأنما أسر في نفسه كفرًا به -وقد احتاط أبو نواس في زهدياته إذ يقول:
لا يجتلى الحوراء من خدرها ... إلا أمرؤ ميزانه راجح
جعل مكان المديح النبوي يقوي في النفوس متصلًا بالعبادة مستقلًا عن السياسة والتشيع. ومما قواه أن أساسه ودعامته حب النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر ذلك من أمر الكتاب والسنة قريب. قال تعالى:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} والاتباع لا يصح بلا حب، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الطريق للمعرفة، والمعرفة لا تتم إلا بعون الله وتوفيقه، ورأس الحكمة مخافة الله، واتقوا الله ويعلمكم الله، ولا يعرف الإنسان نفسه إلا بالحكمة، فإذا عرفها أحبها الحب الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى، فلم تستول عليه شهواتها فيصرفه هواها عن سبل الرشاد. وسبيل الرشاد السنة. ومن زعم أنه يتبع السنة وليس في قلبه حب الذي سنها فهو غير صحيح الإيمان. لأن الاتباع بلا محبة هواء. فنسأل الله الهداية إنه سميع قريب مجيب. وما يشهد بأن أمر المديح النبوي قد قوي جدًا وأن تعلق الناس به قد كان شديدًا على زمان أبي العتاهية وأبي نواس مقال الجاحظ الذي أنكر به ما أنكر على الكميت بن زيد حيث قال «فأما مدح النبي صلى الله عليه وسلم فمن هذا الذي يسوءه»؟
ويذكر أن أبا الطيب سئل لم لم يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ليم في ذلك فاعتذر بأن قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى من أن يبلغه مدحه أو بشيء من هذا المعنى، وقد رأيت في أحد دواوين أبي الطيب بيتين له في مدحه صلى الله عليه وسلم أو الاعتذار عن ذلك وند عني موضعهما من بعد.
وقال الشيخ يوسف النبهاني رحمه الله في مقدمة المجموعة النبهاني في المدائح النبوية (طبعة بيروت في المطبعة الأدبية سنة ١٣٢٠ هـ) في مقدمته لها في الفصل الثامن (ص ١٧): «قال بعض العلماء إن سبب عدم مدح البعض من مشاهير الشعراء المتنبي وأبي تمام والبحتري للنبي صلى الله عليه وسلم إنما هو علمهم أنهم عاجزون