روح من أدب وصدق في حضرة المولى سبحانه عز وجل:
سأروح بين وفود مكة وافدًا ... حتى إذا صدروا فما أنا صادر
هذا كأنه يخاطب به نفسه، ولذلك حسن شيئًا موقع العزم والجزم به، إذ لو كان مراده مخاطبة غيره لكان لزمه الاحتراس بذكر الأمل والمشيئة، وقد جاء بهذا المعنى فيها بعد، فدل بذلك أنه ههنا إنما يخاطب نفسه- غير أنه قبل أن يصل إلى موضع ذلك أطال في تفسير قوله «فما أنا صادر» أنه يريد به المجاورة، وقد سبق أن قال ذلك، وهذا كما لا يخفى مذهب نثري يصير به ناظمه في طريقة الشعر إلى ما وسموه بالإخلاء- غير أن في أطناب الزمخشري الذي أطنبه نغمة حزن خفية، كأنه بها يعزي نفسه على فراق تماضر، هاته التي تحتمل الكناية عن الوطن وزهرة الدنيا جميعًا.
بفناء بيت الله أضرب قبتي ... حتى يحل بي الضريح القابر
يعني حتى أحل به، والعبارة فصيحة في مذهب العربية ولا ريب أن الزمخشري تعمدها.
ألقى العصا بين الحطيم وزمزم ... لا يطبيني إخوة وعشائر
عني بالحطيم البيت كله.
ضيفًا لمولى لا يخل بضيفه ... ويريه أقصى ما تمنى الزائر
حسبي جوار الله حسبي وحده ... عن كل مفخرة يعد الفاخر
لا يخفى أن ههنا تطويلًا ونفسًا خطابيًا ما عدا به تكرار الفكرة التي تقدمت ومع أن هذا التوكيد يخاطب به نفسه قد عدا به الاعتدال المؤثر حقًا.
سأقيم ثم وثم تدفن أعظمي ... ولسوف يبعثني هناك الحاشر
هذا مما عجل به الزمخشري في طلبه توكيد المعنى، معنى الجوار الذي بدأ به، فغفل من حيث لم يشعر -أم قد شعر- من قوله تعالى: {وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} وهي مما لا يغفل عنه، فكأن قد تذكر وتنبه، فمن أجل ذلك قال من بعد ذلك مباشرة:
يا ليت شعري والحوادث جمة ... والعيب فيه للحكيم سرائر
هذا كما ترى كالاستدراك والتذكر.
والعبد يحرص أن ينفذ عزمه ... ووراء عزم العبد حكم قاهر
هل في قضاء الله أني قادم ... أم القرى وإلى البنية ناظر
والنظر إلى الكعبة عبادة.
فمقبل الحجر الممسح ملصقًا ... خدي به وعليه دمعي قاطر