ومكان مراعاة عادة الشعراء في بائية علقمة أنه بناها على نسيب ورحلة وخلوص إلى الممدوح، وهو الذي سماه ابن رشيق المبدأ والخروج والنهاية. ومكان التسلسل أنه جعل الأبيات آخذًا بعضها برقاب بعض في حيز كل من هذه الأقسام الثلاثة ثم ربط بين أطراف ذلك وأوساطه ربطًا محكمًا. فجاء الكلام كلًا واحدًا تام الصياغة والترتيب، في القصيدة سبعة وثلاثون بيتًا، وهذا فوق التوسط وأقرب إلى الطول إذ ذات الأربعين بيتًا مما تعد طويلة.
الأبيات العشرة الأول في النسيب. والمطلع مشعر بأنفاس من غرض الشاعر. وقد كنا تعرضنا لبسط في هذا المعنى من قبل. وقد تصرمت فيما بيننا وعهود الشعراء الأقدمين مئات من السنين. وقد اختلفت حال الناس بعد الإسلام عما كانت عليه قبل الإسلام اختلافًا كبيرًا. وعلى أيام الفتنة عما كانت عليه قبلها. وفي زمن معاوية عما كانت عليه أيام الراشدين. وفي زمان المروانية عما كانت عليه من قبل. وهكذا إلى يومنا هذا. ولقد كان القدماء من جاهليين وإسلاميين إلى قريب من زمان أبي الطيب إذا افتتح الشاعر كلامه أحسوا بأنفاس غرضه ووجهة سبيل مقاصده. ولقد كانوا في الجاهلية لطول الفهم الشعر يعرفون ما لكل مطلع من دلالة، وما لكل نسيب من مكنونات الرمز. ونحن إذ نحاول فهم مقالهم في هذا الصدد نستعين بالحدس والترجيح فينبغي التسليم بأن القدماء كانوا يعلمون كثيرًا مما لعله قد أغلق عن علمنا بابه، فيجب علينا من أجل ذلك أن نتواضع.
قوله:
طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب
مشعر بأن قلبه يكلفه أمرًا ذا بعد ومشقة، وكذلك ما كان هو قد عزم عليه من الوفادة في قصة أخيه شأس قد كان أمرًا ذا بعد ومشقة. وقد خلع من تهيبه لقاء ملك غسان بعض الوصف على محبوبته.
محجبة ما يستطاع كلامها ... على بابها من أن تزار رقيب
ولعل القارئ الكريم يذكر وقفتنا من قبل عند قول مزرد بن ضرار أخي الشماخ: