وكما أوجب عليه من قبل حق الرحلة حيث قال:
فلا تحرمني نائلًا عن جنابة ... فإني امرؤ وسط القباب غريب
أوجب الآن عليه حق ما أحسن من الثناء عليه.
وأنت الذي آثاره في عدوه ... من البؤس والنعمي لهن ندوب
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب
قال الضبي شأس أخو علقمة. والذنوب النصيب. وقال أبو عبيدة فلما سمع الحارث قوله «فحق لشأس من نداك ذنوب» - قال أذنبة وأذنبة ثم أمر بإطلاق شأس وجميع أسرى بني تميم.
وما مثله في الناس إلا أسيره ... مدان ولا دان لذاك قريب
وهذا حسن اختتام كما لا يخفى.
وكما رأيت اتصال المعاني وتسلسلها مع براعة التأتي، وجودة التمهيد لفكرة تلي، وجودة رد الكلام على فكرة تقدمت. وسير التسلسل كله في إطار ما قدمنا لك ذكره من عادة الشعراء أن يبدئوا بالنسيب ثم يرتحلوا ثم يخلصوا بعد ذلك إلى المدح وغيره من الأغراض -وغرض الشاعر الأكبر لم يذكره علقمة إلا في آخر بيتي القصيدة- ولو وقف بالقصيدة عند قوله:
فحق لشأس من نداك ذنوب
لكان ذلك اختتامًا خطابيًا بالغًا. ولعله كان الختام، إلا أن الملك لما قال: وأذنبة، استوجب من الشاعر مزيدًا من الثناء وتوضيح مراده من هذا الذنوب أي النصيب بفتح الذال وأصل معناه الدلو- فقال علقمة من أجل ذلك:
وما مثله في الناس إلا أسيره ... مدان ....
إذ هو يكرم الأسير على أن الأسير لا يمكن أن يكون مثله، ولا يمكن لأحد أن يدانيه أو يقرب من منزلة فضله وجوده ومجده:
ولا دان لذاك قريب
ولا يخفى أن ههنا استراحة من انفعال النفس الخطابي ونهاية طيبة.
ومثال آخر من أمثلة التسلسل الجاري على سياق عادة الشعراء كلمة النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد