ثم بسط النابغة هذا المعنى. وليس أمره كأمر علقمة، فعلقمة قد كان غريبًا وافدًا، فاهتم بأن يقرع السمع بأنه وافد من بعيد وآمل عظيم الأمل معًا. أما النابغة فقد كان ذا قرب وسابق مودة وخدمة للنعمان، فحاجته إلى استئناف تجديد القربى إليه وطلب الزلفى عنده تستلزم أن يسمعه ما يطرب له من حسن الثناء، وأن يضمن ثناءه روح ما يتلمسه عنده من عفو وعطاء وجاه- فقال بعد تأكيده أن له فضلًا على الناس في الأدنين والبعد:
ولا أرى فاعلًا في الناس يشبهه ... ولا أحاشي من الأقوام من أحد
إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فأحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد
ومن عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
إلا لمثلك أو من أنت سابقة ... سبق الجواد إذا استولى على الأمد
قوله إلا سليمان- يجري مجرى المبالغة، إذ ملك سليمان كان يضرب به المثل لما كان له ولوزيره آصف بن برخيا من الأسرار ومعرفة الاسم الأعظم والمقدرة على تخييس الجن وتسخيرها. ولئن صح أن النعمان قد كانت أمه من يهود، فعن عمد يكون النابغة قد أشار إلى ملك سليمان لما يعلم من حسن موقع ذلك عند النعمان. وقوله «ومن عصاك نعاقبه» يتضمن تبرئة نفسه كما يتضمن التعريف بالوشاة والإشارة إلى ما حل بالمنخل من النكال. وقوله ولا تقعد على ضمد أي على حقد، ولكن انتقم ولا يخلو النابغة من أن يكون قصد إلى معنى الضماد وهو أن يكون للمرأة خليلان أي ولا تقعد على أن يكون لك في أمرك منازع أو شريك. والعاصي منازع وطالب للمشاركة في سلطان من يعصيه- وأرى هذا المعنى أقرب، ثم فيه من التعريض بأمر المنخل ما فيه. والضمد بسكون الميم كالضماد معنى والفتح كثيرًا ما يعاقب السكون.
ومما ينبئ باستقامة المعنى على ما تأولناه من أن المراد ولا تقعد على عصيان عاص ينازع في السلطان ويروم أن يشارك فيه، قوله من بعد:
إلا لمثلك أو من أنت سابقه
وليس لسليمان مثل. ومن يكون سابقًا هو له، فهو وزير وعون كآصف بن برخيا. وما أرى إلا أن النابغة عنى المتجردة إذ هي القريبة من النعمان كقرب وزارة آصف من سليمان. أم هل يا ترى عنى النابغة نفسه؟ أم عنى الأمرين معًا؟