إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين
فآهتها بغامها وهو الرجل الحزين. وأما قول التبريزي: «وصوتها إذا احتجت إلى أن أصوت ليسمع الحي يقوم مقام صوتي، وإنما قال بغامي على الاستعارة» (شرح البرقوقي ٤/ ٢٧٣ - تصوير بيروت) - فوجه واضح والتبريزي أقرب إلى زمان أبي الطيب منا، وليس الذي قاله بمبعد معنى الإشارة الذي ذكرناه، وقد سبق منا القول إن أبا الطيب كان يخفي إشاراته ولا يظهرها إظهار أبي تام إلا ما قل من ذلك.
فقد أرد المياه بغير هاد ... سوى عدى لها برق الغمام
يذم لمهجتي ربي وسيفي ... إذا احتاج الوحيد إلى الذمام
ولا أمسى لأهل البخل ضيفا ... وليس قري سوى مخ النعام
يعني وليس من قرى يلفى إذ النعام لا مخ له. ومن روى مح النعام بالحاء يعني بيض النعام ويعرفون كيف يهتدون إليه فيكره من يطاردهم اتباعهم. والمح «صفار» البيض وأطلقه على البيض كله، وكذلك يقال في ناحية «بحر أبيض» (أي النيل الأبيض) عندنا للبيض إذ يباع «المح المح» إلا أنهم يكسرون الميم.
وهذا البيت فيه مواجهة لكافور وتعريض به بالبخل، وقد كشف هذا المعنى في هجائه الصريح له من بعد. ثم يقول:
ولما صار ود الناس خبا ... جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه ... لعلمي أنه بعض الأنام
يحب العاقلون على التصافي ... وحب الجاهلين على الوسام
أي أنت لست بحسن الوسام من أجل ذلك، ولكني إنما أحببتك رجاء التصافي بيننا، هذا هو المعنى المستكين، وتعمده أبو الطيب، وأراد به عتاب كافور فقارب توبيخه، على شدة ما احترس.
ثم جاء بالدواهي، وكأن قد تعمد ذلك إذ قال من بعد: -
وآنف من أخي لأبي وأمي ... إذ لم أجده من الكرام
ولم يكن له أخ من أب وأم. وإنما كان أقرب الناس إليه جدته التي فيها قوله:
ولو لم تكوني بنت أكرم والد ... لكان أباك الضخم كونك لي أما