أحن إلى أهلي وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب
وأستبعد أن يكون يعني هؤلاء. فمن زعم أنه أحب امرأة بعينها بحلب من آل سيف الدولة فربما احتج بهذا البيت. وهذا أيضًا مما استبعده.
وعسى بعضه أن يكون مرده إلى روح «رومنسية» عصرنا الحديث.
يقول لي الطيب أكلت شيئًا ... وداؤك في شرابك والطعام
عاد إلى معنى «بنت الدهر» التي خاطبها قبل
وما في طبه أني جواد ... أضر بجسمه طول الجمام
ولعل أبا لطيب لو رأى عصرنا هذا الحديث أن يعجب لغلو الطب الآن في كراهية طول الجمام والنصح بالرياضة البدنية ولعجب من كثرة من يهرولون كل صباح من غير دواعي العجلة خوفا من أن يفاجئهم الموت إن لم يفعلوا ذلك.
وما في طبه أني جواد ... أضر بجسمه طول الجمام
تعود أن يغبر في السرايا ... ويدخل من قتام في قتام
فأمسك لا يطال له فيرعى ... ولا هو في العليق ولا اللجام
لعل ابن رشيق أن يقول -لو أمكنه ذلك- إن مما يدل على إيثار أبي الطيب الخيل تشبيه نفسه بالجواد هاهنا ولم يشبهها ببكر أو فنيق. ويرد على مثل هذا أن التشبيه بالجواد في باب هذا المعنى الذي قصد إليه أصح.
وإذ قد وضحت لأبي الطيب أسباب علته وسقمه، فإن ذلك أول سبيل الشفاء:
فإن أمرض فما مرض اصطباري ... وإن أحمم فما حم اعتزامي
وإن أسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
الأمل كل الأمل في البيت الأول. ومع الأمل انتفاضة العزم والتصميم. ولكن البيت الثاني فيه التأمل ومع التأمل الأسى واستشعار مأساة المصير -وقد صدق ما سلم من حمام الحمى إلا إلى حمام مقتله بدير العاقول:
تمتع من سهاد أو رقاد ... ولا تأمل كرى تحت الرجام
ومعنى تشبيه الموت بالنوم في الشعر- ومقبال شكسبير على لسان هامليت (٣ - س ١ - س ٥٣ - ٦١)