للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مسلم صاحب الدولة بهذه القصيدة جدًا، وقال لرؤبة وهو ينشده إياها: "أنا ذلك الجلمود المدق".

ومذهب أبي النجم وذي الرمة أسلم من مذهب العجاج وابنه، فالأول لم يخرج بنظمه -مع إطالته- عن مجرد الترنم، وما تجده في كلامه من الغريب فهو سليقي غير متكلف، إذا قد كان الرجل بدويًا قحا (١)، ومن خير ما نظمه أرجوزة في الحلبة أرودها صاحب العقد [١٧٢: ١] وهي غاية في الجودة، وإياها احتذى أبو نواس في طردياته المشهورة (٢):

أما ذو الرمة فكان رجلًا يعيش في الجاهلية بقلبه وعقله، وكان شديد المحاكاة للجاهليين والسرقة منهم ولا سيما في وصف البادية والإبل والآرام، وكان مغرمًا بالصحراء ومظاهرها - غرامًا ما أحسبه كان طرفًا من حبه للجاهلية ونزعته الرجعية، يدلك على ذلك إفراطه في اتباع التشبيهات الجاهلية مع اجتهاد متعمد منه ليحسنها ويوضحها وللرجل في هذا المضمار مذهب لفظي خاص كأنما كان يتنبأ به عن الإغراب الذي جاء به أبو تمام فيما بعد. وهاك منه على سبيل المثال قوله (٣)

وتيها تودي بين أسقاطها الصبا ... عليها من الظلماء جل وخندق


(١) قحا بضم القاف بعدها جاء مشددة أي خالصا.
(٢) يوشك المرء أن يفرد ديوانًا كاملا من طرديات أبي نواس. وقد كان الإكثار من النظم في فن واحد فنًا شائعا في عصره، من ذلك منظومات أبي الشمقمق في قطه نازويه، ومنظومات أبي حكيمة في رثاء شبابه وقد وفق أبو نواس في استعمال الرجز لأنه أنسب بحر للطرديات، وهذا لا يقدح فيه ما نجده لزهير وامرئ القيس من طرديات في غير الرجز كالطويل مثلا، فذانك قد أرادا إلى وصف اللذة الناشئة عن الطرد لا الطرد نفسه، ويدل على هذا ما تجده عندهم من ذكر الخدم والطهاة.
(٣) يعني كأنها مخندق عليها، وكأنها لابسة جلا من شدة الظلام، والأبيات من قصيدته "أدارا بخروي" وسيأتي الكلام على شعره في جزء آخر من هذا الكتاب إن شاء الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>