لبثت إن وجدت منفذًا ضئيلاً فتفجرت بالسحر الحلال ولم ينضب، روى الأستاذ خليل مطران في فصل رائع:«لقد تسامحت يومًا بدالة الود فسألته أية حال من أحوال حياتك كنت فيها أميل إلى الشعر وأكثر استغالاً به، فأجابني أن خطرات الشعر صحبتني في أيامي كلها ولم تفارقني إلا في أقلها.».أ. هـ.
قلت، ليت شعري هل حسب مطران البارودي صناعًا مثله؟ وإذن لكان أجابه، آخذًا من كلام ابن قتيبة، يوم شرب الدواء، ويوم المنفى. وصدق مطران لقد تسامح بأيما دالة حين سأله. وصدق البارودي في الجواب، وكان صدوقًا.
قولهم البارودي نسبة إلى محله بمصر يقال لها إيتاي البارود «إحدى بلاد مديرية البحيرة، ذلك أن أحد أجداده الأمير مرادًا البارودي بن يوسف شاويش كان ملتزمًا لها، وكان كل ملتزم ينسب في ذلك العهد إلى التزامه» - كما في مقدمة ديوانه بقلم محمد حسين هيكل باشا (طبعة دار المعارف ١٣٩١ هـ-١٩٧١ م ص ٦).
بلغني أن كتابًا صدر رسالة في إحدى جامعات مصر، عن نشأة البارودي فلعله يضئ لنا بعض السبيل عن أوائل تعليمه، فإن في النفس شيئًا من أن يكون بدأ التعلم بعد موت أبيه كما هو أول ما يتبادر من ظاهر ترجمة السوربوني رحمه الله له. وكما في مقدمة الديوان (ص ٦) حيث قال: «مات أبوه بدنقلة وهو في السابعة من عمره فكفله بعض أهله وضموه إليهم وقد تلقى في بيتهم دراسته الأولى من الثامنة إلى الثانية عشرة من عمره ثم التحق بالمدرسة الحربية أ. هـ» - قلت بعيد جدًا أن يكون أبوه وهو مدير دنقلة وبربر ومن بيت فضل وسراوة عريق أن يغفل عن قرآن ابنه في السن التي يؤخذ فيها الصغار بذلك. لعلهم حين يبلغون السابعة -وذلك حين يؤمرون بالصلاة ويضربون عليها- يكونون قد حفظوا من المفصل قدرًا صالحًا. وقد كانت في دنقلة وبربر خلاوي (أي كتاتيب) قرآن.
وكان في بربر فقهاء على المذهب الشافعي وهو مذهب أهل مصر الغالب، وقرأة لهم علم بالتجويد من طريق الشاطبية وغيرها. فما يبعد أن يكون أبوه وقد كان حاكمًا قادرًا على ذلك، يستقدم منهم إلى داره، أو يبعث بابنه إلى بعضهم في الخلوة مع خادم