للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«ولا مرتين». وقد تأثر أدباء النهضة وروادها الأولون بعد البارودي وقبله، في مصر والشام وغيرهما، أول شيء بالثقافة الفرنسية ثم من بعد بالإنجليزية وغيرها من آداب أوربا.

أما البارودي فقد كان صاحب سيف ورجل دولة ونضال. كان تأثره بأوروبا محصورًا في الجانب العلمي الحربي والسياسي. ولكن الجانب الأدبي لم يفتنه. كان له عنه شغل شاغل بما فتنه وملك عليه جوانب قلبه من أشعار العرب. حتى نثره المسجوع بالنسبة لبعض ما لا نقول به من بعض الأقاويل المعاصرة، ينبغي أن يكون هو ضربًا من الشعر. شخصيته التي نعتناها بأنها في الرومنسية ذروة، هي حقًا أصل في ذاتها، من نوع تلك البطولات المثالية التي كانت تعطو إليها رومنسية شعراء أوروبا الأولى وأدباءها، بأحلامها ونماذج صناعتها وإلهامها. البارودي بأنه أصل ومثل، لا فرع ضعيف ولا حذو على مثال، ذلك مخرجه من زمرة الرومنسية الحديثة إخراجًا.

قصيدة البارودي لا ملحمية ولا مسرحية ولا غنائية هي عربية صلته صوت مكافح جهير، كصوت زهير وجرير وأبي تمام وأبي الطيب. الدالية التي أوردناها منذ حين أغلب عليها روح المجاراة على مالها من معدن أصالة وقوة. وقد استقام للبارودي حين بلغ أشده في الشعر واستوى نهج القصيدة، كما استقام من قبل، لأبي تمام وأبي عبادة وأبي الطيب، ومن بعد هؤلاء للصرصري والبوصيري والبرعي وابن الخطيب والبقية الباقية من شعراء مدح الرسول صلى الله عليه وسلم في شتى بلاد العربية وآفاق الإسلام.

خذ قوله المشهور في موقفه من ثورة عرابي باشا:

نصحت قومي وقلت الحرب مفجعة ... وربما تاح أمر غير مظنون

تأمل تاح هذه في زمان لا يكاد يعرف فيه هذا الفعل إلا رباعيًا مبنيًا للمجهول. المبني للمعلوم هنا هو المعبر الأصيل.

فخالفوني وشبوها مكابرة ... وكان أولى بقومي لو أطاعوني

إذ كان هو الرئيس الأمير العالم الشاعر- ولكن التأثر العملي بأوروبا تخطى حنكته وتجاربه إلى مذهب من «الغوغاء» كان هو منه جد بعيد. وما أرى هيكيلاً على جودة رأيه إلا قد ظلمه حيث قال: «واندفع الضباط يفكرون في خلع توفيق. وقد نازعته نفسه يومئذ إلى مكان المجد وتحركت فيها أسباب الاعتداد بمكان أجداده المماليك الذين

<<  <  ج: ص:  >  >>