ولكن الصورة الكبيرة الكامنة التي زعمنا أنها مغترفة غرفًا من بحر التجربة هي صورة برق بلاد سرنديب. برق ركام السحب الاستوائية يتطاير شرره وتروع ألوانه منها ما يبتدئ بنفسجيًا ثم يبيض أبهر وأنصع من لهب «المغنيسيوم»، ومنها ما يحمر ومنها ما يتطاير شررًا وجمرات- تشبيهات البارودي ها هنا مأخوذات من هذه التجارب. ومن براعته الفائقة أنه جعل جميع ذلك يبدو وكأنه «تقليدي»، ما عدا فيه مذهب ما أمر به ابن قتيبة من نعت المياه الأواجن السدم واجتناب التفاح والإجاص! ! !
قول البارودي: «أصبحت في الحب مطويًا إلخ» - فيه نفس أبي الطيب:
مالي أكتم حبًا قد برى جسدي ... وتدعي حب سيف الدولة الأمم
وقوله: «لم يبق لي إلخ» - كقوله:
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي ... شيئًا تتيمه عين ولا جيد
وكأنه في قوله «لم يبق لي غير نفسي ما أجود به» أيضًا أنفاس من قول أبي الطيب
ولكني حسدت على حياتي ... وما طعم الحياة بلا سرور
وقد كرر أبو الطيب هذا المعنى في دالية هجاء كافور
إذا أردت كميت اللون صافية ... وجدتها وحبيب النفس مفقود
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه ... أني بما أنا باك منه محسود
وجاء البارودي بنغمة «لم يترك الدهر إلخ» في قول «لا يترك الحب قلبي إلخ» - وقوله «فلا تلمني على دمع» فيه رجعة إلى نغم «يا لائمي في الهوى إلخ» - وفيه صدى غيلان الذي مر صداه في الريش والعقب، ولكأن غيلان فيه نوع رمز لأبي تمام. وفي قوله «فلي في سفحه أرب» إما سفح العقيق وإما سفح الدمع وكلاهما جيد وينظر إلى قول غيلان:
خليلي عوجا من صدور الرواحل ... بجمهور حزوى فابكيا في المنازل
لعل انهمال الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي نجي البلابل
وقول البارودي: «منازل كلما لاحت مخايلها» فيه رفرفة صوت أبي الطيب:
منازل لم يزل منها خيال ... يتابعني إلى النوبنذجان
ورفرفة أبي الطيب ليست إيقاعية ولفظية فحسب، ولكنها مع ذلك فيها حذو