وهذا النغم نفسه في الميمنة التي على بحرها ورويها بردة المديح وفي نسج البوصيري ما يدل على نظر منه إليها وقد ألمنا بهذا المعنى في كتابنا «التماسة عزاء» (١): -
كانت لنا صنمًا نحنو عليه ولم ... نسجد كما سجد الافشين للصنم
هل حقًا سجد الافشين للصنم، أم كان في سيوف بني العباس رهق؟
وقد افتن البارودي في هذا القسم إذ كنى فيه عن مصر بفتاة بارعة الجمال سلبت فؤاده ثم حجبت عنه. تفصيل الوصف الغزلي الذي فصله ذو مشابه من الذي صنعه كعب إذ قال: وما سعاد إلا أغن غراء فرعاء وما ذكره من أوصاف، غير أن سعاد كعب هي ذات الفجع والولع والإخلاف، وسعاد البارودي ليست ذلك، هي بدر حجبته عوادى الزمان كما يحتجب البدر بليل من الغمام ويالخسوف.
كانت لنا آية في الحسن فاحتجبت ... عنا بليل النوى والبدر يحتجب
وهذا الغزل مع أنه في حب الوطن، يقع موقع الاستراحة والتخفيف من حدة انفعال لوعة الشوق والوجدان وشعوري العتاب والندم اللذين في القسم الأول.
وعلى وضوح الرمز والكناية بالفتاة الحسناء عن مصر، فسره البارودي تفسيرًا لا يدع محلاً للشك بقوله:
فهل إلى نظرة يحيا بها رمق ... ذريعة تبتغيها النفس أو سبب
أبيت في غربة لا النفس راضية ... بها ولا الملتقى من شيعتي كثب
فلا رفيق تسر النفس طلعته ... ولا صديق يرى ما بي فيكتئب
وهذه الأبيات الثلاثة التي جاء بها بعد رمز الغزل تفسيرًا له، تقابل الأبيات الثلاثة التي افتتح بها هذا القسم صارحًا بالشكوى صائحًا:
فيا سراة الحمى ما بال نصرتكم ... ضاقت علي وأنتم سادة نجب
أضعتموني وكانت لي بكم ثقة ... متى خفرتم ذمام العهد يا عرب
أليس في الحق أن يلقى النزيل بكم ... أمنا إذا خاف أن ينتابه العطب
(١) راجع التماسة عزاء ص ٢٢٥ - ٢٢٦.