ولكنها فيها عودة إلى روح اللوعة والانفعال.
ثم يجئ القسم الثالث، وهو في عادة الشعراء للذكرى، ويخالطها فخر ودفاع عن الماضي، يجعله الشاعر في مقابلة ما رمي به من نوائب الدهر- كقول امرئ القيس «وقد أغتدى والطير في وكناتها» وقول علقمة «قد أشهد الشرب فيهم مزهرة وقول الأسود بن يعفى «فلقد أروح على التجار» وهلم جرا. وقد جعله البارودي مجالاً لتبرير موافقة والاعتزاز بما كان من ماضي أمره:
ومن عجائب ما لاقيت من زمني ... أني منيت بخطب أمره عجب
لم أقترف زلة تقضي على بما ... أصبحت فيه فماذا الويل والحرب
قوله ومن عجائب إلخ مر تشبيهنا له بقول أبي الطيب «ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه» وفيه نفس من قول على بن العباس:
ومن عجائب ما تمنى الرجال به ... مستضعفات لهم منهن أقران
ثم يجئ هذا النمط الحر النبيل الجزل:
فهل دفاعي عن ديني وعن وطني ... ذنب أدان به ظلمًا وأغترب
فلا يظن بي الحساد مندمة ... فإنني صابر في الله محتسب
أثريت مجدًا فلم أعبأ بما سلبت ... أيدي الحوادث منى فهو مكتسب
لا يخفض البؤس نفسًا وهي عالية ... ولا يشيد بذكر الخامل النشب
ثم يجيء الفخر الصريح- كقول أبي الطيب «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي» وهو بعد فيه صادق، إذ قوله مخالطه الأسى لا الغضب، الأسى الذي هو أخو الغضب كما قال أبو الطيب:
فحزن كل أخي حزن أخو الغضب
وذلك قوله
إني امرؤ لا يرد الخوف بادرتي ... ولا يحيف على أخلاقي الغضب
ملكت حلمي فلم أنطق بمندية ... وصنت عرضي فلم تعلق بي الريب
وما أبالي ونفسي غير خاطئة ... إذا تخرص أقوام وإن كذبوا
وإذا برر البارودي موقفه وجلى باعتذاره عن نفسه، له أن يقول، كالنابغة في آخر «يا دار مية»
ها إنها فرية قد كان باء بها ... في ثوب يوسف من قبلي دم كذب
الإشارة إلى قول النابغة: «ها إن ذي عذرة إن لا تكن قبلت» وإلى سورة يوسف «وجاءوا على قميصه بدم كذب»
فإن يكن ساءني دهري وغادرني ... في غربة ليس لي فيها أخ حدب
فسوف تصفو الليالي بعد كدرتها ... وكل دور إذا ما تم ينقلب
وهكذا تنتهي هذا القصيدة الرائعة بنفس من الأمل الديني الصادر عن تسليم العبد إلى قضاء مولاه، وثقته بأن الموقف الذي وقفه لم يكن فيه عليه من مذمة أو عار:
فهل دفاعي عن ديني وعن وطني ... ذنب أدان به ظلما وأغترب