يسعى الفتى لأمور قد تضربه ... وليس يعلم ما يأتي وما يدع
يأيها السادر المزور من صلف ... مهلاً فإنك بالأيام منخدع
دع ما يريب وخذ فيما خلقت له ... ولعل قلبك بالإيمان ينتفع
إن الحياة لثوب أنت تخلعه ... وكل ثوب إذا مارث ينخلع
وقد علق كاتب المنار على القصيدة قائلاً: فهذه القصيدة من آخر ما نظم وفيها من آيات النذر للمغرورين بكثرة المال والدائر (١) - تلك القصيدة من أجود شعر البارودي، وهي دمعة وفاء على أيام إسماعيل التي كانت أيام صباه، وهي من الشعر الحي الذي يستمد قوته من الذكرى وهي بكاء على الحال التي آلت إليها البلاد بعد عودته إليها، ورؤيته المحتل ضاربًا بجرانه في نواحيها، ولا ريب أن الألم الصامت كان في فؤاده كالجمرة تحت الرماد فلم يصرح عنه مقاله، وأشد الألم ما كان مكتومًا. وتدل قصيدته في الجزيرة على أن الرجل كان ثاقب الفكر لا تعوقه الظواهر عن رؤية أبعد البواطن، فلم تغره الرفاهية المادية التي غرت بعض العرابيين بعد رجوعهم من المنفى فتوهموا أن أغراضهم تحققت، ولم تغره مظاهر العدل المنظم في الظاهر، فأزاح الستار عن ذلك الظلم الأجنبي المنظم في الباطن الذي يضؤل بجانبه كل ظلم. من ذلك نفهم كيف كان الشاعر بالأمس يبكي من إسماعيل فأصبح يبكي عليه. وكأني بالشاعر أحس دنو الأجل فاستسلم للقضاء في هذه القصيدة، ولم تحفزه همته إلى الفخر ومغالبة الأقدار، ورثى نفسه فيمن رثى حين قال:
زالوا فما بكت الدنيا لفرقتهم ... ولا تعطلت الأعياد والجمع
(١) إلى هنا انتهى كلام كاتب المنار ومن قوله تلك كلام السوربوني إلى حيث بينا نهايته.