فهذا البيت من خير ما قيل في وصف خروج الإنسان من هذه الحياة الدنيا دون أن يحس الكون بفقده مهما كان عظيمًا. قال فيكتور هوجر في المعنى بيتًا يشبه هذا البيت
Je m'en irai bientot au miliau de la fete
Sans que rien manque au monde immense et radieux (١)
وقد تكون هذه القصية في جملتها أثرًا من آثار التأمل الذي يعتري الإنسان عند تقلص الأيام وتقلب الدنيا ويدفعه إلى عرض الماضي في صفحة الفكر فإذا بكى عليه كان بكاؤه المر عصارة التجارب والألم. في فصل كتبه:«إن هذا الوزير الذي اقتدح زناد تلك الهمة، وشبت بعد استقالته تلك الفتنة المستطيرة لم يكن مع شجاعته وإقدامه اللذين بلغ بهما أقصى مبالغها في مواطن القتال إلا رجل سكينة ووداعة وحلم، إصابته بكريمتيه هي التي قلصت من كبده وأودت بجسده ثم إن العارف بحوادث حياته لا يكاد يصدق أنه هو الرجل الذي كان ديدنه في سنواته الأخيرة أن يجمع أطفاله وهم غلامان وأربع فتيات فيجعل لهم مكانًا خصيصًا من البيت لتلقي العلوم واللغات بضروبها على أساتذة يحضرون في مواعيد كأنهم في مدرسة قانونية فيرعى سيرهم كل يوم ثم يمتحنهم كل أسبوع مرة ثم يمتحنهم آخر كل شهر ويوزع عليهم المكافآت على أن هذا البر إنما كان إحدى شمائله وفضائله فإن أريد بعض التعداد فالجودة مع الجود والكياسة مع لطف الحس، والصفح مع المقدرة والإيناس مع علو النفس وشرف الطبع» - إلى هنا ينتهي نقل السوربوني من مطران وأعجب أنا من قوله ثم إن العارف بحوادث حياته لا يكاد يصدق، وأي غرابة في أن يهتم عالم أديب مثقف فطن مثله بتعليم ذريته بأجود ما يقدر عليه، ثم أية غرابة في أن يحافظ جندي وإداري مثله على المواعيد وعلى متابعة ما كلفهم بالامتحان والتفتيش والمكافأة وأما رقة القلب فشاهدها شعره وكذلك الشعراء الفرسان. وأما قول الدكتور محمد صبري السوربوني رحمه الله أنه رثى نفسه ببيت الأعياد والجمع، فما أرى إلا أنه رثى كل ذوي الإمارة الذين عصف بهم الدهر، وإسماعيل خاصة، إذ الناس مما يحسون مقدم الأمير في العيد والجمعة. وأحسب أن كلام فكتور هوجو الذي خيل به للسوربوني أن البارودي رام معنى كمعناه. وإنما رام البارودي رحمه الله جمع أبي الطيب في قوله:
مخلى له المرج منصوبًا بصارخة ... له المنابر مشهودًا بها الجمع
(١) سأنصرف والعيد في عنفوانه ولن يحس فقدان أحد وسط الزحام الكثيف المنير.