والاعتبار بقول الله عز وجل: {كم تركوا من جنات وعيون (٢٥) وزروع ومقام كريم (٢٦) ونعمة كانوا فيها فاكهين (٢٧) كذلك وأورثناها قومًا آخرين (٢٨) فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين (٢٩)}.
ثم يقول السوربوني مستمرًا من حيث انتهى نقله من مطران «نضيف إلى ذلك أن البارودي تمكن بفضل جده وكده من تجديد جزء عظيم من ثروته تركه لأهله وذويه، فكان طول حياته مثال الهمة العلياء، ولم يمنعه قول الشاعر من قيادة الجحافل، ورياسته الوزارة في أحرج الأوقات والعمل. وكل ما يعاب على الرجل أنه لم يوفق في حياته السياسية كما وفق في شعره، ومهما كان من الأمر فقد كانت حياة هذا الرجل صحيفة كبرى من التاريخ المصري تشهد له بحسن الطوية وصدق العزيمة وكراهية الظلم، والاعتدال، والروية والأناة وهو مؤسس دولة الشعر التي يحمل لواءها اليوم شوقي ومطران وحافظ وآخرون بعد أن غادرهم شيخ الشعراء بعده المرحوم صبري باشا الذي ننعاه اليوم إلى الشعر كما ننعى الجود إلى الجود. ولا أعرف رجلاً كافح الردى مثلما كافح البارودي، وطاعن خيلاً من فوارسها الدهر مثلما طاعنها وخاض وقائع الحياة مثلما خاضها، وقد كان خلق الرجل عظيمًا وذكاؤه عظيمًا وشعره عظيمًا فكان الثلاثة في مستوى واحد. وفي اعتقادي أن أكثر شعره ارتباطًا بحياته شعر المنفى، شعر العواطف شعر الوجدان، شعر الألم» - ثم يقول في أخريات الفصل: وقد لبى دعوة ربه في ٦ شوال سنة ١٣٢٢ (ديسمبر سنة ١٩٠٤)(ص ٧٨).أ. هـ نقلنا من السوربوني رحمه الله من كتابه أدب وتاريخ، في هذا الموضع قلت وحصر إبداع البارودي في شعر منفاه فيه بعض النقص من حقيقة قدره ولا يخلو من نوع تشبيه له بأبي فراس، وكان أبو فراس معاصرًا لأبي الطيب يجاريه ويحذو حذوه ويأخذ من لفظه وإيقاعه ومعانيه عن قرب زمان ومكان. وما كذلك كان أمر البارودي. كان البارودي شاعرًا فحلا صاحب نهج من حر القريض وأصيله من قبل المنفى ومن بعده واقرأ بائيته:
سواى بتحنان الأغاريد يطرب
وفيها يقول عن تجربة قلب وبيان:
وبحر من الهيجاء خضت عبابه ... ولا عاصم إلا الصفيح المشطب
تظل به حمر المنايا وسودها ... حواسر في ألوانها تتقلب