حضارة أوربا وتنسب أنفسها إليها، فتقبل على تجريح مجدها من ماض وذكراه، وحاضر وبقاياه، بأظفار من الدعوى والتقليد كالحات ذوات عبس. وإلى الله ترجع الأمور.
هذا. وقد افتتح صبري بنداء وحث على لسان فرعون، وكأنه داع من دعاة الوطنية الحديثة لأهل مصر، واستجابة من هؤلاء لا خوفًا ولا طمعًا ولكن حبًا للإتقان. ويبدو أن هذا المعنى كان دائرًا في أوساط المثقفين. ومن شواهد ذلك مثلاً قول شوقي.
إذا عمدوا لمأثرة أعدوا ... لها الإتقان والخلق المتينا
وموضوع الخلق أيضًا، يبدو أنه كان مما يدور في أحاديث الجد والتأمل بين المفكرين. هو كثير عند شوقي. وقد رأيت منه في قول مطران.
ليت البلاد التي أخلاقها رسبت ... يعلو بأخلاقها تيار طغيان
ثم يذكر إسماعيل صبري ما تشهد به الأهرام والهياكل التي أقامها قدماء الفراعنة وشعوبهم من هذا الإتقان وكيف أنهم سجلوا فيها أخبارهم وسيرهم. ثم جاء هذا العلم الحديث فاعتدى على حرمة أسرارهم بهتكها فالذي فعله جهل والجهل الذي هو عدم معرفة كان أرجح من هذا الذي يسمى نفسه علمًا ويعتدي باسم العلم، كان أرجح ميزانًا من حيث حقيقة الخير والإنسانية. وههنا احتجاجه بروح غضبة قومية على ظاهر تفوق أوربا المتمثل في هؤلاء الأثاريين الذين ينبشون قبور أجدادنا باسم البحث العلمي.
كلتاهما وجهة نظر كما قال السوربوني رحمه الله. غير أن إسماعيل صبري كأنه أصدق وإلى قلوبنا أقرب. ثم كلامه أصفى وأسلم.
وبعد فجلى أن الطريقة التي سلك مطران وسلكها صبري واحدة- ليست هي طريقة الوثب والاقتضاب الذي عند البحتري وقد زعم السوربوني أن إسماعيل صبري ينسج على منواله. أحسب الذي دعاه إلى هذا القول إنه يرى أن شعر صبري غنائي ولا سيما مقطوعاته- قال: «عند الإفرنج نوع من الشعر يدعى (Iyrique) نسبة إلى (Iyre) وهي القيثارة ولا أدري ماذا الذي يمنعنا من تسميته بالشعر الغنائي، فإن هذا الضرب من الشعر كان يغنى به في القرون الوسطى وهو شبيه بالأغاني في الشعر العربي. وقد تفنن صبري في هذا الشعر الوجداني ونظم فعلاً للغناء أدوارًا خاصة منها:(الفجر لاح قوموا يا تجار النوم) ومن أدواره المشهورة دور للغناء قديم على نغمات العود: