ونظر الآيات عنى، وأخذه هذا من الآية: {فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولًا} ظاهر جلى [آية أول الإسراء].
وغيبته كالسلاف في الدنان المحضرة
هذا التشبيه ضعيف، إذ العسل أصل في النعمة، ولا يقال عسل كالخمر، وإنما يقال عسل ولبن وعسل وخمر- قال حسان رضي الله عنه
كأن سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء
على أنيابها أو طعم غض ... من التفاح هصره اجتناء
ومثل هذه الزلة عند شوقي كثير، وهو قصر باع في صناعة ديباجة القريض.
فهل رأيت النحل عن أمانة مقصرة
رجع هنا كما ترى إلى المعنى الأخلاقي. ولكنه توهم أن كل النحل جوارس من بساتين تعد لهن، وكان رحمه الله امرأ موغلا في الحضارة. وعل ذلك أن يكون مما جعل جزالة بداوة القصيدة -وهي بداوة قلب وروح أول من كل شيء- تعسر عليه وتستعصي على طول المحاولة المجتهدة منه. وإذ نحل شوقي نحل بساتين فإنهن لأمانتهن كالمقترضات من الناس حين يجرسن من أزهار بساتينهم، ولأمانتهن يؤدين ما اقترضنه سكرة بسكرة -وهي قافية لا تسلم من عناء- قال:
ما اقترضت من بقلة ... أو استعارت زهرة
أدت إلى الناس به ... سكرة بسكرة
ولننظر الآن في مقالة حافظية بعد هذه الشوقية. وكان حافظ من تلاميذ البارودي، يحذو على نموذج ديباجته، فتشرق عليه من ذلك أحيانًا إشراقة. وما جعل البارودي نموذجًا يبغى أن يتفوق عليه بمحاكاته كما فعل شوقي، إذ كأنه كان كالمسلم بتفوقه واستاذيته ولكن منافسته كانت لشوقي. وقد مر لي في كلام سابق: «وحافظ إبراهيم شاعر قرنه حسن الجد بشوقي، وتعصب بعض الناس له، لما كانوا يجدونه في شعره من كلام يناسب روح العصر السياسي المغيظ على البريطانيين. وشعره في حد ذاته لا يجوز أن يقاس ويقرن مع شعر شوقي، ولعل مسافة ما بينه وبين شوقي أبعد من مسافة ما بين ابن حجاج والمتنبي- أقول الآن، لعل هذا القول أن يكون فيه جور على حافظ، إذ هو أحيانًا أصفى ديباجة من شوقي، وهذا وجه أحسب أن الدكتور طه حسين ذهب إليه في بعض ما تناولهما به من الدرس والنقد. وإلى القارئ بعد بائيته التي عنوانها غادة اليابان- هي أيضًا مقالة قصيدية فيها عنصر غنائي. وحرص حافظ على مقاربة روح القصيدة بنفس فيه أصداء من جزالة البارودي ومقدمات تأملات القدماء التي يجعلونها تمهيدًا حزين النغم يقوم مقام النسيب، كقول الأعشى مثلاً:
لعمرك ما طول هذا الزمن ... على المرء إلا عناء معن
قال رحمه الله:
لا تلم كفي إذا السيف نبا ... صح مني العزم والدهر أبى
رب ساع مبصر في سعيه ... أخطأ التوفيق فيما طلبا
مرحبًا بالخطب يبلوني إذا ... كانت العلياء فيه السببا