للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عقنى الدهر ولولا أنني ... أوثر الحسنى عققت الأدبا

إيه يا دنيا أعبسي أو فابسمي ... لا أرى برقك إلا خلبا

المطلع جهير قصيدي قارع للسمع

ثم هو خطابي وسوغ هذا للشاعر أن يتخذ سمتا من الخطابة الواعظة في البيت الذي تلاه -غير أن هذا البيت بدأ بحضر جيد ثم انبهر إذ كأن حافظًا أراد به تقوية المعنى الذي أصابه في المطلع ولكن مراده لم يستقم له. قوله «الدهر أبى» - أجود وأوجز من قوله «أخطأ التوفيق فيما طلبا»، إذ هذا فيه عناء والتوفيق ليس بالذي يخطئه طالب، وإنما هو عون يجئ من الله سبحانه وتعالى. قوله «رب ساع مبصر في سعيه» يحتاج إلى تكملة قوية إذ هو بداية وتوطئة حسنة، فهذا قولنا إن حافظًا بدأ بحضر (أي جري) جيد ثم عجز من بعد.

والبيت الثالث أوله حسن، وتتمته تحتمل ولكن فيها عناء. والمعنى في صدر البيت الرابع واضح ولكن العجز فيه غموض، مع ما عمد إليه حافظ من المقابلة.

ولكأن حافظًا جعل في هذا النفس الخطابي بعض كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، حذوا يحتذيه، وذلك مثل قوله عليه السلام: «يا دنيا غرى غيري» وقوله: «ولكن لا رأي لمن لا يطاع» وقوله «ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل» وقديمًا قالوا إن زيادًا والحجاج وعبد الحميد الكاتب، كل أولئك تعلموا البلاغة من خطب أمير المؤمنين كرم الله وجهه. فأخذ حافظ من بلاغته سير منه على طريق مهيع. وعجز البيت الخامس «لا أرى برقك إلا خلبًا» أضعف من صدره.

على أن المتأمل لهذه الأعجاز الضعائف، واجد فيها جميعًا مشابه غير الضعف. نوعًا من مسرحية «في جواب سؤال» رب ساع مبصر إلخ- ماذا جرى له: لم يوفق. مرحبًا بالخطب، لماذا ترحب به؟ لأنه طريق إلى العلياء، العلياء هي السبب الذي جاء به. عقنى الدهر ولولا أنني أوثر الحسنى- ماذا كنت تفعل؟ كنت سكت وتملقت الاستعمار ولم أقل شعرًا. إيه يا دنيا أعبسي أو فابسمي. لماذا هذه التسوية؟ لأنك كاذبة، عبوسك وابتسامك سواء وبرقك برق خلب.

هذا الأسلوب الذي حاق مذهب رصانة القصيدة لا يرضاه، يرضاه حاق مذهب الصحافة الشعبية كل الرضا. ويكتسب في ضوء هذا الرضا، نوعًا من صفاء في الديباجة. فتأمل.

ثم بعد أن جعل هذه الخطابة العلوية الشكوى مقدمة، صرح بمعنى استثارة الهمم الراكدة. التي ركودها هو سبب شكواه. وهذا موضوع الأخلاق التي هي النظام والدأب والتدبير المبلغ إلى مثل مستوى حضارة أوربا.

<<  <  ج: ص:  >  >>