كم ذا يكابد عاشق ويلاقي ... في حب مصر كثيرة العشاق
حافظ وشوقي كلاهما قد أخذا من القصيدة وزنها وقافيتها وتصرفًا في وجوه من أساليبها وحرصًا على سلامة الديباجة ورصانتها ما استطاعا. وتشوب ديباجة شوقي خشونة صناعة وعمل وكدرهما وتشوب ديباجة حافظ شعبية تقارب أن تنحرف إلى بعض الابتذال. كلاهما بعد قصيدته مقالة في التبويب والترتيب والمذهب البياني الصحفي المعدن. إلا أن أسلوب شوقي صحفي كتابي. وأسلوب حافظ صحفي خطابي. شوقي مكب على طرس يكتب لمن سيكب على طرس. وحافظ ينشد ويلقي أمام جمهور ثم تطالع الصحافة من الغد قراءة من سمعه منهم ومن لم يسمعه. وقد ينشد شعر شوقي من ينوب فيه عنه، ولكن سنخه ما ذكرنا.
هذا وشوقي وحافظ بعد يشتبهان في عنصر من عناصر التجديد، ذكرنا من قبل أن السوربوني رحمه الله، كأنه قد فطن له في معرض حديثه عن شاعرية إسماعيل صبري، وهو ما اصطلح له النقاد لفظ Lyrique- أي الغناء أو الشعر الغنائي. وقد بينا من قبل رأينا أننا لا نعد القصيدة العربية من الشعر الغنائي بما أغنى عن إعادة ذلك ههنا، ولكن حافظًا وشوقيًا أخذا بوحدة الموضوع، يديران القصيدة حول قطب، ومحور من فكرة. ثم يتقمصان تلك الفكرة وذلك الموضوع تقمصًا ذاتيًا- أعني أنهما يتمثلان الفكرة والموضوع أن ذلك امتداد من أنفسهما ثم يسبغان على الفكرة والموضوع من تقمص أنفسهما لذلك، أو بسبب صيرورة ذلك امتدادًا لأنفسهما، معنى إنسانيًا شاملاً، هذا المعنى الشامل، وهو امتداد ذاتيتها الآن التي قد صارت إنسانية شاملة، يتوخيان به أن يحاكيا ما تفعله هذه الإنسانية الشاملة بقولهما. هنا عنصر المحاكاة للطبيعة- تمثل شوقي ما يريده لأمته من دقة ونظام وتدبير وأمانة وهكذا من الأخلاق التي ينبغي أن تتصف بها حتى لا تذهب وحتى لا يصير بنيان قومها خرابًا- تمثله مملكة النحل، وحاكي بلفظه ووصفه وتأمله حال النحل ويعسوبها الذي يريده حالاً لقومه- إلى نحو من هذا الوجه ذهب مطران حيث قال:
أكبر برمسيس ميتًا لا يلم به ... موت وأكبر به حيًا إلى الآن
ما زال بالقوم حتى صار بينهم ... إلى جند تحابيه وكهان
ورب سائمة بلهاء هائمة ... تشقى وتهواه في سر وإعلان
يسومها كل خسف وهي صابرة ... لا صبر عقل ولكن صبر إيمان
فبجلت تحت تاج الملك مدميها ... وقبلت دمها في المرمر القاني