شاعر القصيدة العربية الأصلية لا يحاكي الطبيعة ملحميًا أو «دراميًا» أو «ليريكيا» - إنه يقول مكافحة مواجهة مثلما كان يفعل أنبياء بني إسرائيل. هكذا وصفهم الناقد العربي القديم.
ونقول، استطرادًا في الموضع، إن الناقد العربي القديم لم يكن بدائيًا فطريًا ساذجًا، هذا قول يقوله من يقلد به دعاوى الإفرنج في التفوق المنطلقة كلها أو جلها من نقطة ارتكاز عرقية «Ethno- centric» كما يقول بعض علماء الاجتماع المعاصرين في اصطلاح اللغة الإنجليزية. وقد يحسن أن ننبه إلى أن كتاب الله العزيز فيه من أمر النقد المتمكن الدقيق ما لو تنبه له أهل الفكر لكان لهم ناهيًا عن اتهام قدمائنا بالفطرية والسذاجة في النقد- قال تعالى (سورة المدثر) {إنه فكر وقدر (١٨) فقتل كيف قدر (١٩) ثم قتل كيف قدر (٢٠) ثم نظر (٢١) ثم عبس وبسر (٢٢) ثم أدبر واستكبر (٢٣) فقال إن هذا إلا سحر يؤثر (٢٤) إن هذا إلا قول البشر (٢٥)} - هذا الناقد البدائي الفطري الموصوف ههنا ينظر في قضية من أخطر قضايا النقد. هل هذا وحي صادق من عند الله أو هو قول افتراه- هذا الناقد الساذج الفطري الموصوف ههنا بأدق ما يوصف به ناقد متمرس، كان من ملأ قريش، شيخًا من كبارهم، وما في الآية إشارة إلى فطرية فيه أو سذاجة، ولكن إلى جبرية ودهاء. وما كان ملأ قريش أهل سذاجة. وهم الذين فتحوا الفتوح وعلموا الناس العلوم وآيات التحدي والنقد التي تنبئ عن حال ما كان عليه القوم من معرفة البيان وتمحيصه كثيرات، وليس ههنا موضع الاستقصاء بله أخبار النقد التي رويت عن النابغة وطرفة وحسان وهلم جرا.
أعلم أيها القارئ الكريم أن حافظًا وشوقيًا (وقد يرى بعض الفضلاء ألا تنصب شوقي بفتحة ظاهرة وبتنوين ولكن تحكي إذ هذا علم وتكون كقولهم بادي بدًا وأيدي سبأ وكان السوربوني يقول بهذا لالتزامه حال واحدة في اسم شوقي، وعندي أن هذا اسم عربي يخضع أو ينبغي أن يخضع لما تخضع له أسماء العرب وإنما تصح الحكاية في نحو شوكت ورفعت وعصمت ومدحت لأن هذه حكاية لوقف عاصم ونافع وبعض القراء في تاء التأنيث التي رسمت في المصحف مفتوحة وهو مذهب للعرب حكاه سيبويه عن أبي الخطاب) - رجع الحديث إلى أن شوقيًا وحافظًا ما كانا تقليديين محافظين على عمود القصيدة، ولكنهما أدخلا فيه تجديد شكل وطريقة أسلوب هي هذه «الليريكية»، مع ما أخذًا به من أسلوب المقالة ووحدة الفكرة والموضوع مما كانت تدور حوله أحاديث أهل الفكر واصطراع آرائهم ومذاهب التماسهم سبل النهضة والحضارة الجديدة والتحرر من المستعمر ... ومن المحافظة التي عليها المسلمون إلى ذلك الحين، مما جرى عند طلاب التقدم مجرى التخلف والتأخر والرجعية.