كان شوقي يعلم من أمر حركات التجديد والتحرر من الأوزان التي كانت بأوروبا وربما كانت يتحدث بها أدباء زمانه في مجالسهم. والمنظر الذي في مسرحية مجنون ليلى يتخلى فيه الأموي (شيطان الشعر) عن قيس فينظم هذا كلامًا مسجوعًا مضطربًا غير موزون فيه وحي برأي شوقي في قضية وزن الشعر وقيوده وأن التطرف في طلب التحرر من ذلك غير حسن.
هذا والذي صنعه حافظ وشوقي من التجديد -على ما اعتدلا به فيه- كأن قد أدخل على عنصر دولة القصيدة الأصيلة كما أقامها البارودي، جندًا دخيلاً كان على يديه من بدء انهيار هيبتها المؤذن بالضعف ثم الهلاك والدمار- كما جاء المعتصم بغلمانه وجنده الترك فقتلوا ابنه المتوكل من بعد وقوضوا أركان الخلافة، فما لبث بها الضعف من حال إلى حال، حتى أزالها كل الزوال، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وإليه المصري.
كان بعد حافظ وشوقي وعلى زمانهما شعراء- ولكن ماء ولا كصدءاء (كصدعاع يا فتي هكذا قال أبو العباس) ومرعى ولا كالسعدان. وآثر أهل البراعة النثر. كإيثار الجاحظ وجيله القادرين على الشعر له، حتى صاروا بأغراض رسائلهم إلى مشابه من أغراضه. وبرز من بين أهل البراعة طه والرافعي والعقاد (١) كل تبريز. أما طه فقد خلص بنفسه خلوصًا إلى تجويد المحاضرة والمقالة والقصة والكتاب. وقد رزق السلامة مع الصفاء ونقاء اللغة وسحر إيقاع البيان. كان رحمه الله في هذا نسيج وحده. ولعل أدنى الأدباء- كان من بعده من مثل طريقته في النقاء الدكتور «زكي مبارك» رحمه الله.
ثم قد كان للزيات إيقاع مهذب وازدواج ذو عذوبة ونغم ورنين. وكان الرافعي والعقاد شاعرين ناثرين، واحسب أن الرافعي تخلى عن نظم الشعر بأخرة، غير أن في المقالات التي كان يوافي بها الرسالة ثم صدرت معًا في كتاب واحد باسم «وحي القلم» ما عسى أن يدل على أنه استمر ينظم الشعر من حين إلى حين، ومن أعجب كلماته إلى في وحي القلم «بنته الصغيرة» وقد ضمنها قطعة بالدارجة ذات طعم حلو:
يا ليل يا ليل يا ليل
ما تنجلي يا ليل
القلب أهو راضي
من الهموم فاضي
(١) توفي الرافعي سنة ١٩٣٧ م والعقاد سنة ١٩٦٤ م وطه حسين ١٩٧٣ م رحمهم الله تعالى.