للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا أريد بهذا الاستدراك أن أنتصف للشعر العربي مدافعًا بأنه ليس بناقص من ناحية الملاحم، فليس خلوه من الملاحم والمسرحيات بنقص فيما أرى وهذا حديث يطول ولنا إن شاء الله إليه عودة في باب آخر.

هذا ومما يناسب ذكره هنا، أن الرجز التعليمي قد جنى جناية عظيمة على بحر الرجز، فصار الشعراء الفحول يتحامونه، وقل منهم من يستريح إليه. وبحسبك أن تنظر في أشعار المتنبي فإنك لا تجد الرجيز بينها إلا كالغريب مع أنه أجاد كل الإجادة في لاميته (١)

ما أجدر الأيام والليالي ... بأن تقول ما له ومالي

والمعري على مقدرته في الصناعة لم يلم به إلا يسيرًا. وكأنما رضي الشعراء بأن يتركوا هذا البحر الرشيق الخفيف الروح الحدائي المزاج لنظام الألفيات وما بمجراها، يعبثون به ما شاءوا، وفات الشعراء أن هؤلاء المعلمين ما اتخذوا الرجز مركبًا ذلولا إلا لما وجدوه من حلاوة نغمه وخفته في الإنشاد. ولأمر ما تجد التعليميات التي نظمت في غير الرجز، ثقيلة جدًا، كلامية الأفعال مثلا.

ومن عجيب الأمر أن التعليمات الرجزية على كثرتها لم يتأت فيها شعر جيد يستحق الاختيار. وقد حاول ابن الهبارية في منظوماته "الصادح والباغم" (٢) أن يمزج عنصر التعليم بالخيال، ولكن لم تكن ملكته من الطراز العالي، ولم تواته الإجادة إلا في أشياء نادرة كقطعته:

إني رأيت أحد الذئاب ... قام خطيبًا في وحوش الغاب

وقد سلمت له أبيات وأشطار تعد على الأصابع، سارت مسير الأمثال نحو:


(١) ديوانه ٥٧٧.
(٢) كتاب الصادح والباغم مطبوع طبعة رديئة مما يؤذي النظر.

<<  <  ج: ص:  >  >>