للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جرسه وجودة تصيد اختياره، هو اللفظ الدقيق المعبر حقًا في هذا الموضع ولكن تمام البيت « ... وعادت وعاد قصف الرياح» جار على ما سبقه من أسلوب الاستعارة والروح الرومنسي التلمس للتعبير والتصوير، إذ ليس ههنا قصف ولا رياح، ولكن هذا تمثيل مثله الشاعر لزجر الشيخ وهوله واستعان عليه بطبيعيات الرومنسيين وزينه بما له من عناية ومعرفة بالألفاظ والتلذذ بنقائها وحلاوتها.

هذه الزينة التي مردها إلى إيثار الاستعارة والتشبيه والجرس اللذيذ هي عطاء «ومساهمة» متعمدة يجود بها التجاني من ثروته اللغوية البيانية ليزيد بها إنتاج التجديد العربي وفي طي ذلك تنبيه إلى مكان نفسه ومكان الجامع من هذا العطاء وهذه المساهمة تأمل قوله «دوى» بالتضعيف، قل من الرومنسيين من يجئ بهذا الفعل مضعفًا وإنما يقال دوى (باب ضرب) بالتخفيف ولعل القياس يجيزه ولكنه أي هذا الثلاثي المخفف ليس هو الفصيح الجيد على الأرجح إذ لم يرد في القاموس. وتأمل قوله: «هينمت بعض أشياء» إيجازه وفصاحته. وتأمل جودة الاستعارة في «لفها النعاس» ومن شعر التجاني المشهور قوله في النيل:

أنت يا نسب يا سليل الفراديـ ... ـس نبيل موفق في مسابك

كم نبيل بمجد ماضيك مفتو ... ن وكم ساجد على أعتابك

وكأن القلوب مما استمدت ... منك سكرى مسحورة من شرابك

قوله «كم نبيل» هب عنى به «شوقي» وهل يعرض بأنه لم ير من جمال النيل إلا مجد الفراعنة؟ ويكون هو الرومنسي الساجد على الأعتاب، وقد صار النيل معبدًا ذا أعتاب؟ قوله يا سليل الفراديس تعبير عصري رقيق، أصله ديني إذ هو من حديث المعراج- أصله من الجامع وقد جعله التجاني بروح عصريته كأن ليس أصله من الجامع. ومن الجامع، مع اعتداد بذلك خفي، أصله. هذا أمر آخر به التجاني مختلف عن الشابي: اعتزازه بالتحصيل الذي ناله من علوم العربية والدين. كأن التجاني بهذا الاعتزاز فيه أنفاس من الضرب الذي ذكرناه أولاً من الرومنسية، ضرب الرافعي الذي أدخلناه في الرومنسية لنخرجه منها، غير أن التجاني بما خالط نفسه من ثورة على المحافظة ورغبة شديدة في التجديد وإيمان بضرورته مع الإحساس القوي بروح الحركة الوطنية ومناهضته الاستعمار، ثم يخالط ذلك كله نوع من فتنة بنعيم النصارى الذي تمثله الخرطوم وبيوت الحكام البريطانيين ذات البساتين، وصنوف الأجانب من تجار وحاشية أخلاط بينما «البقعة المباركة» - أي أم درمان، يسير السائر في نصف

<<  <  ج: ص:  >  >>