للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشعر المعاصر مغمورًا مجهولاً بين الكثرة الكاثرة من السماء هذا مع أنه رحمه الله من عصر غير بعيد من زمان أبولو، ومن أدباء مصر وشعرائها ومصر بلا ريب هي مركز العربية، علومها وآدابها من شعر ونثر. ولعل من أسباب هذا الذي ضرب على اسمه من الخمول أنع قد أغير على شعره إغارة أكبر وأشد مما أغاره هو- إن كان حقًا قد أغاره- على شعر التجاني. وإذن فعلى النقد أن يتتبع بالدرس معاني هذا الشاعر الكادح وألفاظه المثقلة بالاستعارات والأخيلة البعيدة المتصيد والتفاصيل الدقيقة في نعت الريف وغيره من أحوال الحياة في بيئته الحقيقية والمتوهمة وما أشك أنه رحمه الله لو كان أنصع ديباجة وأقل عناء عمل لكان يجد من الاهتمام به قريبًا مما وجد غيره كعلى محمود طه وأبي شادي مثلاً. أتى محمود حسن إسماعيل رحمه الله، فيما أحسب، من جهة شعوره بمكان «الفقير الضائع» الذي بين جنبي نفسه ذات الشعر والحظ من العربية، فضمن ذلك من ضروب التلفيق ما زاد فقيره الضائع ضيعة. وهذا بعد لا ينقص من أهميته في باب الدرس الذي نحن بصدده، وقد سبقت الإشارة إلى رأي الجاحظ أن السرقة للشعراء ديدن. وزعم الأصمعي أن تسعة أعشار الفرزدق سرقة، وقال المرزباني إن هذا تحامل منه شديد، فنعوذ بالله من خطل القول ومن فرط زلات القلم.

ومما يحسن التنبيه عليه في نطاق ما كنا فيه من الحديث عن التجاني أنه واضح صدق الانفعال وحرارة الوجدان إذا وصف الريف والقرية، فإذا أخذ في وصف الخرطوم نفسها على ما كان يفتنه من بهرج فيها خالط حرارته فتور، بالرغم من تخيره للفظ الحلو وتجويده للنغم:

مدينة كالزهرة المونقة ... تنفح بالطيب على قطرها

ضفافها السحرية المورقة ... يخفق قلب النيل في صدرها

تحسبها أغنية مطرقة ... نغمها الحسن على نهرها

مبهمة الحانها مطلقة ... رجعها الصيدح من طيرها

وشمسها الخمرية المشرقة ... تفرغ كأس الضوء من بدرها

البيت الثاني وحده هو الذي فيه نبأة من روح، وذلك لأنه جرد النيل وضفتيه من المدينة الأجنبية التي دونهما. النيب وخضرته ذلك من صميم طبيعة الريف الذي نشأ فيه وملأ جمال فجرها قلبه

فهو دفق من عالم كله قلـ ... ـب خفوق ولوعة خفاقة

ظل يهفو إلى السماء ويشكو ... لوعة الروح ههنا واحتراقه

<<  <  ج: ص:  >  >>