للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم بعد هذا الجند الغريب اجتاحت القصيدة العربية غارة هولاكو وكما دخل التتار. ليس لنا ولا لغيرنا أن ينكر التجديد فإنه من سنن التطور والرغبة في التغيير من ظواهر الحياة وبواطنها ومكملاتها وشواهد كينونتها ووجودها. ومن التجديد صادف ومنه إفك وافتراء. والإفك والافتراء زبد يذهب جفاء. والصدق وكل ما هو صادق يبقى وينتفع به قال تعالى: {وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} [سورة الرعد].

ومما يختبر به الافتراء أن المجيء بأمثاله سهل، وما ليس بافتراء تعسر محاكاته بما يكون مثله.

ضروب التجديد التي نراها الآن أكثرها غثاء وزبد جفاء. مما يدل على أنها افتراء كثرة امتلاء الطروس والصحف السيارة بأمثالها، ثم خروجها كل الخروج عن عرف اللغة الفصيحة وهي لغة ميراث لا يجوز التلاعب به ولا التفريط فيه إذ ذلك يفسد الطريق إلى معرفة أسراره وفهمه- هي لغة القرآن، وعن عرف اللغة الدارجة، وهذا دليل فساد حجة من يدعي أن هذه الضروب التجديدية تطور وانعكاس لحال البيئة وبيان عنها. ذلك بأن طبقات الناس في المدن والبوادي في جميع أقطار العربية تتغنى في أعراسها وأفراحها ومناحاتها ومواكبها بين الفلاحين والجنود والعمال والطلبة، وفي احتفالات سمرها وابتهاجًا ذوات الصبغة الخاصة أو العامة، في جميع ذلك تتغنى بالكلام الموزون المقفى بحسب ما عليه طريقة الوزن والتقفية في الكلام الدارج، فلماذا إذن هذا التعدي على اللسان الفصيح؟ لم يكن حافظ وشوقي وجيلهما جيل تقليدين، كان جيل التقليديين جيل من نظموا في ضروب أصناف الشعر نظم علماء من غير انفعال ولا تجويد إيقاع. وكان بعض مرد ذلك إلى ضعف التحصيل وانشغال أكثر أهل العلم بمتون الفقه، حتى إن المعلقات السبع والعشر نفسها كانت تقرأ وتنسخ على أنها متون، لا على أنها من الشعر عيون.

وقد اقتدى عصر كامل بجيب شوقي وحافظ وكان كل أولئك أخل تجديد، إلا أنه كان يخالطه عنصر الإعذار والاعتذار إلى الغرب، المنبعثين عن إقرار بتفوق حضارته، فكان التجديد مع صدوره عن رغبة صادقة وعن حسن نية آخذًا بسبيل أدت آخر الأمر إلى تيهاء وخراب وضياع.

كانت حركة الديوان وأكثر الحركة الرومنطيكية أو الرومنسية محاولة زيادة في التجديد مشتملة على اتهام الجيل شوقي بالتقليد- ولم يكن الحسد الخفي لشوقي عن ذلك بالأمر البعيد- والله تعالى أعلم؛ .

<<  <  ج: ص:  >  >>