يقصر فنه على الأشياء السارة. ولعلك ترى أن أبا تمام قد صبغ الصورة بصبغ قاتم من الحقد ونشوة الانتقام. ولكن هل كان يتحدث إلا بلسان المعتصم والخلافة، لسان السلطان المنتصر السكران بنشوة الانتقام والظفر.
ولم يقف أبو تمام عند وصف الجثة المحترقة وحدها، فقد أتبعها بصورة للنار، وثالثة بين فيها فرح العامة والغوغاء، لما أبصروه من هذه المشاهد الفظيعة، قال:
لله من نار رأيت ضياءها ... ما كان يرفع مثلها للساري
صلى لها حياً وكان وقودها ... ميتاً ويدخلها مع الفجار
وكذاك أهل النار في الدنيا هم ... يوم القيامة جل أهل النار
ما أصدق هذا الكلام فكم ترى الرذيلة والفقر يسيران معاً.
يا مشهداً صدرت بفرحته إلى ... أمصارها القصوى بنو الأمصار
رمقوا أعالي جذعه فكأنما ... رمقوا الهلال عشية الإفطار
واستنشقوا منه قتاراً نشره ... من عنبر ذفر ومسك داري
وتحدثوا عن هلكه كحديث من ... بالبدو عن متتابع الأمطار
وتباشروا كتباشر الحرمين في ... قحم السنين بأرخص الأسعار
تأمل الى هذا الغناء الوحشي، ألا تكاد ترى فيه صورة بعض القبائل الهمجية وهي ترقص ثملة حول أجساد ضحاياها؟ - وكأن أبا تمام أحس أن وحشية الثأر والانتقام والشماتة قد بلغت غايتها، فانحدر من هذه القمة المروعة إلى غرض آخر:
كانت شماتة شامت عاراً فقد ... صارت به تنضو ثياب العار
قد كان بوأه الخليفة جانباً ... من قلبه حرماً على الأقدار
فسقاه ماء الخفض غير مصردٍ ... وأنامه في الأمن غير غرار