للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لما رآني قد نزلت أريده ... أبدى نواجذه لغير تبسم

عهدي به مد النهار كأنما ... خضبب البنان ورأسه بالعظلم

فالبيت الأخير كما ترى فيه تحسر لا شماتة.

هذا وقد اتبع البحتري سبيل أبي تمام في قصيدته (١):

أأفاق صب من هوى فأفيقا

فأجاد، على أنه سار فيها على غير المألوف من طريقته ومنهجه.

وحقيقة بحر الكامل كما ذكرنا من قبل غنائية محضة - أعني بغنائية ترنمية موسيقية خالصة الموسيقا. وللشعراء في الأداء بواسطته مذهبان: الفخامة والجزالة - هذا مذهب والرقة واللطف هذا مذهب آخر.

وقد رأيت أمثلة من الفخامة في شعر أبي تمام، ولم يكن له من مصرف عنها إذ كانت طريقته تعتمد على الفكر، والفكر لا يناسبه الترقيق، وإنما تناسبه الصلابة. وليس معنى هذا أن طريقة الفخامة في بحر الكامل لا بد أن يصحبها مذهب فكر، فقد قررنا من قبل أن المذهب الفكري شيء انفرد به أبو تمام. وقد رأيت في مقطوعة باعث بن صريم فخامة لا يساعدها فكر.

وخير مثال للتغني مع الفخامة في البحر الكامل، معلقة لبيد بن ربيعة العامري، فألفاظ الرجل فيها صلبة قوية الأسر، وصفاته بدوية خالصة البداوة، ومشربه مشرب الفتيان ذوي الحماسة والمروة والندى والفتوة، لا تكاد تلمح فيه ضعفًا ولا لينًا. وقد جمع في معلقته مع الصور البارعة والدقة في الوصف (٢) حذقًا لا


(١) ديوانه ١٤٥: ١.
(٢) لا شك أن وصف لبيد للبقرة الوحشية وغيرها من مظاهر الصحراء بارع للغاية. ولكن لا يفوتن القارئ أن أوصاف الصحاري والكلاب والمها وما إلى ذلك كانت من "كليشيهات" الشعر الجاهلي ولا يكاد لبيد يعدو أن قلد في أكثر أوصافه.

<<  <  ج: ص:  >  >>