ولعلك تذكر أيها القارئ أني قدمت لك أن الكامل ذو ثلاثين مقطعًا تغلب عليها الحركات. ولو التزم شاعر تفعيلاته التامة أوقعه ذلك في الرتابة. وسر الصناعة في الكامل كله يدور على تغليب السكنات على الحركات طورًا، ثم على تغليب الحركات على السكنات طورًا آخر، ثم على الموازنة بينهما أحيانا - ومعنى هذا أن يفتن الشاعر في استعمال الأحرف المتحركة والأحرف المشددة، وأحرف المد والإشباع وأنواع التنوين. وهذا ما فعله لبيد في معلقته. خذ قوله يصف الأطلال:
فمدافع الريان عري رسمها ... خلقا كما ضمن الوحي سلامها
رزقت مرابيع النجوم وصابها ... ودق الرواعد جودها فرهامها
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت ... بالجلهتين ظباؤها ونعامها
والعين ساكنة على أطلائها ... عوذًا تأجل بالفضاء بهامها
وجلا السيول عن الطلول كأنها زبر تجد متونها أقلامها
تأمل لعبه بالراءات والتشديد في البيت الثاني. ألا تحسبه أراد بذلك أن ينقل إليك طرفًا من صوت خرير الماء وهو يتدفع في مدافع الريان. ثم البيت الثالث، كيف تحس فيه حروف الإشباع - ألا تجد بينها وبين هذا المطر المنهمر حينًا والرذاذ الدائم حينًا، من نسب وقرابة، ثم تأمل الفات المد في البيت الرابع، ألا تحسها تنسجم مع روح الحركة والنمو الذي يمثله لك الشاعر في وصفه لعلو فروع الأيهقان، وإطفال الظباء والنعام على جلهتي الوادي، أي جانبيه الرمليتين؟ ثم ماذا تقول في هذه الصورة الخاطفة المرحة الحية التي يرسمها لك البيت الخامس -الظباء العين تحنو على أطلائها، والبهام تتجمع قطعًا قطعًا وهي تلعب بالفضاء- ولا يفتك موقع التنوين في القسم الأول من كل شطر؟ وكيف أنت وواوات الصدر من البيت السادس ثم الهمزة