وأسلسهم من غير خروج عن مذهب المتانة في السبك، واتباع المنهج الفصيح في تقعيد الكلام. ولكامله رنين قل أن تجد نظيره عند غيره من الشعراء. نغم رنان تنساب معه الألفاظ انسيابًا. فإذا عنت الصورة الجميلة أو الخاطر الشعري الرائع، وافاك ذلك كالبرق الخاطف حتى تكاد تسأل نفسك: أصدق هذا أم أنا مسحور؟
ولن تجد شاعرًا يفتن كما يفتن البحتري في استغلال الثلاثيات من الكلمات، واستعمال المصادر المنونة، وألفات المد، وحروف الإشباع، كل ذلك في سلاسة وخفة ورشاقة. وما أبدع ما قال عنه ابن الأثير أنه أراد أن يشعر فغنى تأمل قوله في الخيال (١):
لازال محتفل الغمام الباكر ... يهمي على حجرات أعلى الحاجر
فلرب أطلال هناك محيلة ... ومحلة قفر ورسم داثر
أبهت لساكنها النوى وتكشفت ... عن أهلها سنة الزمان الناضر
ولقد تكون بها الأوانسر من مهاً ... ميل القلوب إلى الصبا وجآذر
أخيال علوة كيف زرت وعندنا ... أرق يشرد بالخيال الزائر
ومن هنا يبدأ الشعر المحض الخالص:
طيف ألم بنا ونحن بمهمه ... مرت يشق على الملم الخاطر
أفضى إلى شعث تطير كراهم ... روحات قود كالقسي ضوامر
حتى إذا نزعوا الدجى وتسربلوا ... من فضل هلهلة الصباح الغائر
ورموا إلى الشعب الرحال بأعين ... يكسرن من نظر النعاس الفاتر
أهوى فأسعف بالتحية خلسة ... والشمس تلمع في جناح الطائر