للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا يمكنني أن أزعم أن في هذه الأبيات زخرفًا لفظيًا، كلا ولا أزعم أن في مرسلات الأستاذ أبي حديد شيئًا من ذلك. ولكني ألفت نظر القارئ إلى ظاهرة أجدها في الأبيات السابقة. ألا يجد القارئ أن قافية البيت الأول (وقل ذلك فيما بعده من أبيات) مستقلة بنفسها، منقطعة عما بعدها، صالحة لأن تجيء من قصيدة من نفس الروي والبحر، وحينئذ لا تشعر أنها من بيت مرسل؟ ألا يشعر القارئ معي أن نظم هذه الأبيات ليس بنظم مرسل صريح، وإنما هو استعمال لقافية مستقلة في كل بيت -وهو من أجل ذلك ضرب من الإجازة أو الإكفاء؟ أليس الشاعر الذي يعمد إلى الشعر المرسل ينسى مكان القافية من آخر البيت، وسيطرتها عليه، كل النسيان؟ أليس إذا فعل ذلك لم يجد بدًا من أن يعوض فقدانها بشيء من المحسنات اللفظية ليضمن سلامة الموسيقى في شعره؟ وهل المحسنات اللفظية إلا الجناس والطباق والسجع وما إلى ذلك؟

ولا تقل لي: فنهج شكري وأبي حديد إذن أفضل من النظم المرسل الصريح، إذ نظمها كما قلت لك إكفاءٌ وإجازة، وذلك يفسد رنة الكلام، وينبو عن الذوق، وقد فرغ النقاد الأولون من تهجين الإكفاء والإجازة.

وبحسب أنصار النظم المرسل الصريح، أن يتذكروا كيف عبثت طبيعة السجع المتأصلة في بنية العربية بالنثر، وهو كلام مرسل حقًا لا وزن فيه. ليتذكروا مقامات الحريري، وسجع الصاحب ابن عباد، وتكلف القاضي الفاضل وابن الأثير وأضراب هؤلاء. ثم ليتذكروا كيف طغى هذا الأسلوب المسجوع المصنوع على غيره من الأساليب، حتى صار هو الطريقة المستحسنة، وحتى لم يستطع أمثال ابن خلدون من ذوي الأفكار والأصالة أن يتحرروا من ربقته (١)، وحتى أن النثر


(١) خطبة المقدمة من السجع المتكلف، ولكن سائر الكتاب بعد ذلك نثر مرسل. هذا وفي مقامات الحريري ورسائل القاضي من جيد البيان روائع. والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>