العلمي الجاف، الذي لا تجوز فيه الصناعة بحال خضع للسجع كثيرًا، وكاد يستسلم له. ليتذكروا كل هذا. ثم ليفكروا إن كان النظم المرسل سيكون أسعد حظًا من النثر في مقاومة الزخرف والأسجاع المتكلفة. أستبعد ذلك كل الاستبعاد.
ولعل أنصار النظم المرسل يحتجون علينا بما يجدونه من كثرة القصائد الطوال المختارات في أشعار الغربيين المرسلة، ويقولون لنا: لولا أن ترك القافية أعطى هؤلاء الأوروبيين قسطًا عظيمًا من الحرية، ما كان ليتسنى لهم ما بلغوه من الإبداع في مطولاتهم. وهذا احتجاج مردود. ذلك بأن طبيعة اللغات الأوروبية تضن بالقوافي. والجوادة بالقوافي منها، كاللغة اللاتينية لا يتسنى لها الجودة إلا من طريق الاعراب والضمائر. وهي طريق يملها السالك وينفر منها السامع، ولذلك آثر اللاتينيون الشعر المرسل.
فلا غرابة اذن أن نجد النظم المرسل مناسبًا للغات الغرب، لأنها بطبعها تعجز عن التقفية والأسجاع، ولا يتأتى فيها التجنيس بأنواعه كما يتأتى في العربية. واللغة الإنجليزية بخاصة تؤثر الترسل على التقفية. ومع هذا فلا ينكر القارئ لأشعار الإنجليزية أن ترسلها كثيرًا ما يجر إلى الثرثرة والإسهاب، كما هي الحال في الجزء الأكبر من فردوس ملتون، وفي أكثر روايات شكسبير. خذ مثلًا ماكبيث. فإحسان الرجل فيها محصور ما بين آخر الفصل الأول إلى آخر الثاني، ويسمو في نتف من الثالث، ثم يسف بعد ذلك إلا في قطع أهمها هذيان الملكة، وهو نثر محض (١).
(١) وإسفاف الغربيين في المسمطات أكثر من أن يحصى. وأضرب لك أمثلة من الشعر الإنكليزي قصيدة ملكة الجنيات لسبنسر، وهي مملة للغاية وفيها حشد من الصناعة يشبه ما فعله ابن جابر في بديعيته، ونحو مقدمة وردزورث، التي لو محي سائرها وأبقيت منها قطع يسيرة لأغنى ذلك. ولعل ما دهى شعراء أوروبا من داء التطويل والإسهاب. شر مما دهى شعراء العربية من داء التزام النسيب ووصف الابل. وعسى ألا يكون هذان داء والله تعالى أعلم.