للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذن فلا مفر من أن نقول بأن الشعر المرسل لا يناسب اللغة الفصحى، وأنه لن يستطيع أن يقوم فيها مقام القافية الملتزمة التي تقمع شيطان الثرثرة الجموح.

وقد تنبري لي أيها القارئ فتقول: "أوافقك في استهجان التسميط، وأحط معك في ازدراء الترسل، وأسلم لك بأن القافية الموحدة الملتزمة، قد تكون حقًا هي أنسب شيء للشعر العربي، وأنجع علاج لداء الصناعة والزخرف والتلاعب بالألفاظ. وإن كانت هي في ذاتها نوعًا من الزخرف، كما أن التطعيم أنجع وقاية من الجدري، وإن كان هو في ذاته ضربًا من الجدري -قد أذهب معك إلى هذا الحد، ولكن على تقدير أن الناظم المعاصر لا يزال يملك، كالقدماء، ذخيرة واسعة، ويقدر على التصرف في نحو اللغة وأساليبها كما كانوا يقدرون. ولكن الحقيقة الواضحة هي أن الذخائر اللغوية قد صغرت، وأن النحو نفسه قد تغير وتبدل، وأن تركيب الجملة قد دخله من الجمود ما لو بصر به النابغة وزهير وأضرابهما لولوا منه فرارًا ولملئوا منه رعبًا. فهل نزعم كذبًا أن الدنيا لم تحل عن حالها؟ وهل نفرض ادعاء أن لنا من الملكات والقدرة على تصريف أعنة اللغة ما كان للأوائل؟ ثم نظل بعد ذلك نقيد أنفسنا بالقافية الموحدة الملتزمة لنكبح جماح صناعة لفظية لا نملك من أداتها غير كلمات محدودة "وكليشهات" باهتة ضربت عليها عنكبوت الزمان بنسجها؟ ألا نأبه لما طرأ علينا من تغيير، والي ما تتطلبه حاجات اليوم من تعبير سلس واضح طلق، غير ذي عوج ولا ربق ولا قيود؟ ".

ولو قلت لي هذا أيها القارئ لقلت لك: "انظم باللغة العامية ولا تعدها". ثم لنبهتك إلى أن اللغة العامية نفسها مازال ينظم فيها الناظمون منذ ألف عام أو أكثر، وأن كاهلها قد اثقله "الكليشيهات" والزخارف، التي يحاكي بها أصحابها زخرفة الأشعار الفصيحة، حذوك النعل بالنعل، من دون أن يقدروا على أن يأتوا بشيء شبيه بما في اللغة الفصيحة من سمو.

<<  <  ج: ص:  >  >>