للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حتى كأني للحوادث مروة ... بصفا المشقر كل يوم تقرع (١)

وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع

والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع

ولا أدري ما مناسبة هذا البيت الأخير لما قبله. ولعله ضاعت قبله أبيات توصل إليه. وأبيات الرثاء هذه في جملتها قوية جدًا. والعاطفة التي فيها من نوع واضح شديد لا يحتاج إلى تفسير. ويصل إلى قلب السامع بلا واسطة. وهي في بابها أقوى من كلام الشريف وكلام البحتري، والصدق فيها أظهر، كما أنها أدخل في طبيعة بحر الكامل لجمعها بين طرفي الغناء، والعنف في الإفصاح بما يختلج في الصدر من لذع الألم وحرقة الحزن. ولو قد اكتفى بها أبو ذؤيب لكان قد أصاب حق الإصابة لأنه قد أبلغ بها السامع كل ما أراد أن يقوله، ولكنه لم يكتف وطلب أن يتأمل ويتعمق على منهج شعراء هذيل في الرثاء من ذكر هلاك الأوابد والنسور والوعول وما إلى ذلك من مظاهر الطبيعة. وهاته سبيل تزل بالسالك في بحر الكامل. وقد قرأت في بعض الكتب أن عمر بن الخطاب أنشد أبيات أبي ذؤيب التي ذكرناها فاستحسنها جدًا. ثم لما أنشد أبياته التي بعدها من قوله: "والدهر لا يبقى على حدثانه جون السراة البيت الخ" قال رضي الله عنه: "سلا أبو ذؤيب". وهذا لعمري نقد مصيب. فالرجل قد أخطأ من جهتين: من جهة أنه عمد إلى التأمل في بحر يصلح للبكاء والغضب والحزن والمرح والتغني، ومن جهة أنه أهمل طريقة كلامه وفارق سننه وغرضه الأساسي إلى أغراض أخر، وليس هذا النقد مبنيًا على مسألة التمسك بوحدة القصيدة. فلست ممن يقولون ذلك (٢). وإنما تحس وأنت تقرأ كلام أبي ذؤيب أن نفسه خفت، وانه نسي


(١) المشقر: قيل سوق بالطائف، وزعم ابن الأنباري أنه مسجد، وهذا بعيد. وروي المشرق بضم الميم وفتح الراء المشددة: يعني التشريق. والوجه أن المشقر سوق بالطائف، لأن أبا رغال والذي يرجمه الناس أصله من الطائف. ولم يعن الشاعر المشقر بالذي بالبحرين.
(٢) على معنى أن تكون الوحدة مبنية على موضوع واحد كما يقع في المقالات وفي كثير من أشعار الفرنجة. ولنا في وحدة القصيدة العربية رأي مبسوط في مواضع تلي إن شاء الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>