للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحزن، وجعل يقلد غيره من الشعراء الذين وصفوا الحمر وما إليها. والتقليد لا يحمد عليه أحد (١).

وإن عجبي ليطول من متأدبة هذا العصر، يغلون في مدح هذه القصيدة حتى إن بعضهم ليسميها "سمفونية أبي ذؤيب"، وربما يسميها بعضهم "سوناتة" أبي ذؤيب إعجابًا بها. ولو قد وقف هذا الإعجاب على قسمها الحزين الباكي الذي في أولها، لكان له وجه، ولكنهم يعممون إعجابهم فيشملون به القصيدة كلها.

ولا أكاد أمتري في أن كثيرًا منهم إنما يفعل هذا لا مخلصًا في إعجابه، ولكن ليظهر أنه ملم بطرف من الآداب القديمة، وقدير على الاستمتاع بجيدها ومتنخلها، وهذا نوع من التدليس لا يسعني إلا التحذير منه. على أني أعترف أن بعضهم ربما كان أضله اختيار قدامة لأبيات منها مبدوءة بالفاء. فعل ذلك قدامة في كتابه نقد الشعر. وزعم أن الأبيات متتابعة في النسق الذي أورده، وأشاد ببراعة الشاعر في استعمال الفاء، هكذا من غير ما تكلف. وقد نظرت في القصيدة كما هي في المفضليات، فلم أجد الفاءات تتابع في نسق واحد إلا في أبيات ثلاثة هي قوله:

فوردن والعيوق مقعد رابئ الضرباء فوق النظم لا يتتلع

فشرعن في حجرات عذب بارد ... حصب البطاح تغيب فيه الأكرع (٢)

فشربن ثم سمعن حسًا دونه ... شرف الحجاب وريب قرع يقرع

وهي أبيات حسنة اللفظ جيدة الموسيقا إلا أنها خارجة عن روح القصيدة وأثر التقليد الأعمى واضح فيها (٣). ولو قد صحت لقائل دعواه من توالي الفاءات في أبيات أكثر مما عدنا، لكانت حجتنا عليه بأن كلام الشاعر خارج عن روح الحزن الذي بدأ


(١) لعل أبا ذؤيب قد أصاب من جهة التأمل وانظر مقالنا في أخريات هذا الكتاب إن شاء الله.
(٢) فوردن: يعني الحمر. مقعد رابئ الضرباء: أي قريب من النظم، وهو الجوزاء. ورابئ الضرباء هو رقيب الميسر، والضرباء جمع ضريب، وقد شرحها أحد المفسرين المحدثين بأنها دويبة فتأمل. والحجرات النواحي.
(٣) لا تقول بهذا الآن وما خلا ذلك القول من بعض طيش الشباب.

<<  <  ج: ص:  >  >>