وهذا حين نبدأ في الحديث عن قافيته التي عنوانها «أيها النيل» وهي من حر شعره، وقد قدم لها بكلمة نثرية في ديوانه الثاني ووجهها إلى الأستاذ مرجليوث أستاذ اللغة العربية بأكسفورد. وأنا أشك جدا إن كان الأستاذ مرجليوث فهم هذه القصيدة كما ينبغي أن يفهم الشعر، فالرجل كان لا يكاد يسيغ العربية إلا بعد أن يترجمها إلى الإنجليزية، ومع ذلك فقد كانت دعواه فيها طويلة عريضة. وكم يود مترجم شوقي ومؤرخه والمولع بشعره أن لو كان بعث بهذه القصيدة إلى «بيفان» أستاذ اللغة بكمبردج أو «كارلوس ليال» شارح المفضليات، فهذان كانا يفهمان العربية شعرها ونثرها، وتعجبهما أوزانها وصيغها. ويقدران على تمييز الجزل من الشخت، والصقيل من المخشوب.
ومقدمة شوقي النثرية ليست بجيدة، فالرجل كان قصير الباع في النثر، وكم من شاعر ليس بناثر. ولا تكاد تبين لنا هذه المقدمة شيئاً من الدوافع التي حدت الشاعر إلى نظم هذه القافية الفخمة -على أن فيها جملاً يلمح منها نور شوقي كقوله:«وهذه أيها الأستاذ الكريم كلمة قيلت والهموم سارية، والأقدار بالمخاوف جارية، والدماء والدموع متبارية، وذئاب البشر يقتتلون على الفانية»(الشوقيات ٢ - ٧٧٠).
قال رحمه الله يخاطب النيل:
من أي عهد في القرى تتدفق ... وبأي كف في المدائن تغدق
ومن السماء نزلت أم فجرت من ... عليا الجنان جداولاً تترقرق
وبأي نول أنت ناسج بردة ... للضفتين جديدها لا يخلق
أي لا يبلى.
تسود ديباجاً إذا فارقتها ... فإذا حضرت اخضوضر الإستبرق