تتشايع الداران فيه فما بدا ... دنيا ومالم يبد أخرى تصدق
للموت سر تحته وجداره ... سور على السر الخفي وخندق
وكأن منزلهم بأعماق السرى ... بين المحلة والمحلة فندق
موفورة تحت الثرى أزوادهم ... رحب بهم بين الكهوف المطبق
فهذا كما ترى وصف وتأمل وتفكر، وتصحبه فصاحة مبينة، وكلم جزلة، مع إحسان في الطباق والتقسيم، وتنويع بين الإكثار من التنوين في بيت، ومن المد في آخر ثم استعمال السكون الظاهر والتشديد في بيت ثالث، مثال ذلك البيت «فقصورهم الخ» فكثرة التنوينات تغلب عليه، وأما البيت «تتشايع الداران» فالمد غالب عليه مطرد [على أن قوله «لم يبد» ناب فيه شيء]. وأما قوله «للموت سر» ففيه لعب الفظي واضح. وإن كان قد سرق الصورة الخيالية من قول ذي الرمة:
وصحراء يودي بين أسقاطها الندى ... عليها من الظلماء جل وخندق
وقد اتبع شوقي ثلاثة مذاهب في الأبيات التي ذكرناها وفي غيرها مما سنذكره إن شاء الله: مذهب لبيد في تقوية اللفظ مع الوصف الدقيق، ومذهب أبي تمام في التأمل والتغني معاً، ومذهب البحتري في تصوير الجامد وإحيائه. وقد فارق لبيداً من حيث إنه دونه في شدة الأسر وجلجلة اللفظ ورنين المد والتنوين والتشديد وحروف الإشباع، كما قد فارق أبا تمام من حيث أنه لم يكثر من اللعب اللفظي والإغراب المعنوي وإن كان لم يخل منه كقوله:«تتشايع الداران .. البيت»، وقد أحسن في مجاراة البحتري في وصف المباني وتأملها، وإن كان قصر عنه في حسن التغني، والإتيان باللفتات الشعرية الخاطفة، مع السلاسة والتدفع. ومن خير ما جارى به البحتري قوله:
ولمن هياكل قد علا الباني بها ... بين الثريا والثرى تتنسق
منها المشيد كالبروج وبعضها ... كالطود مضطجع أشم منطق